العولمة وأثرها على الفنون البصرية
د. عبد الله الكوماني
د. عبد الله الكوماني –
ان التكعيبيين كانوا قد وظفوا الكولاج كوسيلة لاستكشاف الخلافات بين التشبيه والحقيقة. ووسع الدادائيون والسرياليون مداه كثيرا. ووجدوه يلبي نزعتهم العدائية في الفن. وحين وقع الكولاج في ايدي جيل ما بعد الحرب تطور الى فن التجميع وهو وسيلة فنية لخلق اعمال موجودة مسبقا حيث تنحصر مساهمة الفنان باقامة حلقات اتصال فيما بين الاشياء بوضعها معا.. اكثر من صنع الاشياء.
كان التجميع تجاوزا (للبوب) وهو الذي حفز الى مراجعة جذرية للصيغ التي ينبغي على الفنون البصرية ان تسعى للعمل بمقتضاها.. فالتجميع مثلا اتاح نقطة انطلاق نحو مفهومين كانت اهميتهما تزداد اطرادا للفنانين وهما: البيئة والحدث.
واذ كانت قصاصات الجرائد والاقمشة وحشو المقاعد والصفيح تشكل معجم الفنان التكعيبي مثل (بيكاسو) (وبراك) فأن (دوشامب) فتح لاحقا العلبة التي انطلقت منها الافاعي وظهرت العواقب غير المتوقعة لاستخدامه للاشياء الجاهزة في أعماله
الفنية التي أصبحت فيما بعد ظاهرة لها أهميتها التي بلغت الذروة ونضجت بشكل تام في فياعماله اللاحقة مثل مطحنة البن ‘المبولة والمونليزا بتحريفاتها.
وبعد فن التجميع هذا ظهر فن جديد يعنى بالاستنساخ والمزج بين الأساليب السابقة ووقف هذا الفن في مواجهة النظرة الشكلانية لفن الحداثة. التي تركز على تطهير الفن من غير عناصره الأساسية.. وباختصار نستطيع القول ان الفن قد تحول إلى اللا نقاء ومن التفرد الى التوليف وتحرك من الثبات على الجدران الى الفضاء.
لقد توسع الموضوع فاخذ يحلق بعيدا عن المألوفات التي تناولها الرسم عبر تاريخه في تأكيده على الإنسان ثم أثاثه والطبيعة والتجريدات الهندسية.. وغيرها.
وقد يثار السؤال عن علاقة موضوع الرسم والفن بدخول المشاركون في تظاهرة بيتا خاويا يدون مسامير الى منتصفها في جدران الغرف وأرضيتها واسقفها ثم يغلق باب البيت الخارجي وينصرف المشاركون.. او يقوم مجموعة من المشاركين بعمل لوحة.. من خلال وضع الورق المقوى المغطى بالقار حول عدد كبير من السيارات في ساحة انتظار احد المتاجر الكبيرة ويثبتونه بالحبال..!
ان مواضيع كهذه تؤدي الى التركيز على الفعل التقني والمضموني من دون اعتبار لقيمة الشكل الفني وجماليات الفن التي نحتها عبر قرون.. لكن من الطبيعي جدا ان لمثل هذه الجمالية الجديدة فضاء ورؤية شكلت حساسية بصرية وذهنية خاصة فاذا كان المنظر الطبيعي والفن فيما مضى يعاشان فقد أصبحا الان ينشآن.. إنهاء نهاية المتعة والعودة للحلول التقنية فالمنظر الطبيعي لما بعد الحداثة أصبح مختصا بالمناطق الطبيعية المحروسة والفضاءات الخضراء مبعدا من مركز حياتنا اليومية القابلة للتصوير والتنظير.. ويشكل صدى خادعا للثقافة التراثية وبما ان انتاجات العصر البصري تعتبر غير صالحة لتأثيث بيوتنا فان الفن أيضا تم تخصيصه للمتحف. اما لافن الذي ينشده الفنانون فهو الفن الخارق او ما يمكن تسميته مع (دوبريه) الفن التقني Techno-art.
ان التصورات آنفة الذكر قد عمقت الهوة بين الرسم والأفكار.. (الموضوعات) فأصبح الرسم شكلا من إشكال الموضوع وليس العكس..تحول الجوهر التقني
ان غفلتنا البصرية الجديدة تدين بالكثير للثورة في المواصلات السلكية واللاسلكية والنقل فمع انمحاء المسافات اختفى الإحساس بالمدى الترابي ومعنى المعيش الواقعي لقد غدا كل شيء قابلا للامتلاك بسرعة وبلا جهد.
فالفن التشكيلي بطيء بينما المعلوماتية سريعة. والعصر البصري يقصر الأزمنة على اللوحة بالإصباغ السائلة والسريعة الجفاف بالاكرليك.. وهي ليست سوى ماء والدانة خاصة ومستعجلة.. هذه ما يريده عصر الشاشة السائل والمرتجل عصر الانتقال والمرور المرتبط بقيم التيارات والموجات والأصوات والاخبار والصور. حيث تغدو سرعة اضطرارية الأشياء الصلبة والمتماسكة سائلة والخصائص ملساء ومسطحة.. فوسطنا التقني يجعل من نفسه عابرا للحدود كالصور الأثيرية.. انه ينتج فنا عابرا للفنون1..وسنكون امام عاملين وسائطين قد فرضا نفسيهما على الرسم.. هما (الشاشة) و(العمارة) وكلا الوسطين يحققان اليوم ما يمكن تسميته فن الفرجة المجانية الذي بدا يتحكم في أساليب الرسم واتجاهاته في نهايات القرن الماضي والسنوات الأولى من قرننا الواحد والعشرين..
* رئيس قسم التربية الفنية
جامعة ذمار