العصبويات المتخلفة

احمد الشرعبي


 - لكل بلد من بلداننا العربية خصائصه الجغرافية والاجتماعية والاقتصادية أما على صعيد التحولات الجوهرية في وعي وثقافة مجتمعاتنا فإن مؤشر الإعاقة يظل في حالة نمو مضطرد حتى
احمد الشرعبي –

لكل بلد من بلداننا العربية خصائصه الجغرافية والاجتماعية والاقتصادية أما على صعيد التحولات الجوهرية في وعي وثقافة مجتمعاتنا فإن مؤشر الإعاقة يظل في حالة نمو مضطرد حتى وإن سجلت الأبحاث والدراسات المحلية وشهدت التقارير الإحصائية الدولية أن قطرا عربيا شمال الوطن العربي أو وسطه أو جنوبه أحرز مستويات متقدمة في مجالات التنمية البشرية وخلف الأمية والأمراض البدائية خلف ظهره.
أوائل الثمانينيات من القرن الماضي دخلت لبنان في شراك الأحداث الدامية ولم يحتج ذوو المؤهلات العلمية العالية لأكثر من اسبوعين ريثما تصبح علاقتهم بالسلاح أقوى من صلتهم بالمؤسسات الأكاديمية.
ويومها تغير كل شيء فلا فيروز تغني ولا المكتبات العريقة تفاخر بإصداراتها ولا الوجوه الباسمة المرحة تغدق البهاء على الشاطئ.. أقول كل شيء تغير بما في ذلك علاقة الانسان بالطبيعة وشهقات الصبايا في مواسم التزلج على المدراج الثلجية.
وحين وصل المجتمع بقواه السياسية مرحلة التشبع من العنف ووضعت الحرب أوزارها رأينا آثار الدمار الهائل ومناحات المسارح الجاثمة على الارض لتبدأ دورة الحياة فوق قشرة المدنية المتماهية مع كمائن السلاح.
تونس البلد الأخضر هي الأخرى تستيقظ على صرخة شاب أضرم النار على جسده احتجاجا من ظلم حاكم لم يكن يحسن الإصغآء لأنين الناس ولقى محمد الباعزيزي حتفه على أن صرخته غدت ثورة عارمة يختفي تحت ملاءتها تيار العنف السياسي بجاهزياته المعلومة وامكانياته القادرة على مصادرة أحلام المجتمع التونسي واقتلاع إرثه العريض من المدنية وحب الحياة والكفاح في سبيل اخصابها.
ومثل ما ذهب إليه شاعر الثورة العربية ابي القاسم الشابي فقد ذهب الشعب التونسي إلى ساحات الثورة وكان تواقا لكسر القيد والتخفف من مشاق السلطة البوليسية لكن الذي تحقق ليس إرادة الحياة وإنما الوقوع في مأزق (المجلس البلدي) الموصوف في قصيدة بيرم التونسي على أسوأ صورة من صور الديكتاتوريات المتخلفة التي تحتكر تمثيل السماء وتسطوا على تضحيات الشعوب المقهورة ولا تتورع عن استباحة الحقوق والحريات والتقرب إلى الله بما ومن يخالفها الرأي!! الحياة في مجتمعات المدنية الواهمة يعادل رصاصة الغدر المهداة لشهيد النوايا الحسنة السيد شكري بلعيد¿¿ وهل قتل الرجل إلا بضوء أخضر من جماعات التطرف الجاثمة على قلب الربيع التأثر.
بيد أن الأمر في اليمن يبدو مختلفا جدا.. حيث تختلط الاوراق ببعضها في مشهد تراجيدي لا تقتصر مخاطره على المتاحات الضئيلة لبناء دولة القانون انما احلال نقائض المدنية واغتصاب الدور الوطني للقوى الحداثية الواقعة تحت سقف المواطنة الأدنى المحكومة بموازين مختلة ترجح دفة التطرف والقبيلة وحلفائهما من الدوغما السياسية ذات الحسابات الاستراتيجية المتشائلة¿ وهنا تحديدا تكمن سخرية الدهر فالمشروع المدني يرفع في بلدان الربيع العربي بنفس الطريقة التي أبدعها معاوية بن ابي سفيان لاكتساب مشروعيته في الولاية!! محض افتراء أن تتجسد مدنية الدولة والمجتمع طالما كان على سدة السلطة أحد المخلصين لمبدأ السمع والطاعة أو ما يعرف بالولاء والبراء.. ومخض هرآء أن تكون أسس الدولة المدنية أو مفاهيمها ضمن قناعات نافذ ظل يستقوي بالسلاح وأبناء القبيلة ويرسم مخططا من أوكار العصابة ضد من يعتقدهم دونه محتدا أو أقل منه رصيدا قد لا تنطلي الخدع على الجيل القادم ولكن مكر التاريخ كفيل باستدعاء المفارقات المجحفة إذ يكتوي جيلنا المعاصر بذات السذاجة ثم تعاوده الرغبة في تجربتها مرة اخرى ما يدل على خلل في الذاكرة وانحسار للرؤية وفقر في البصيرة!! وتقريبا فما تحتاجه فكرة المدنية في مجتمعاتنا ليس وفرة المتعلمين ولا تيارات الاسلام السياسي والايدلوجي ولكن توطين قيم المدنية في المناهج التربوية وتجذيرها في اوساط الناشئة واليافعين وربطها بمنظومة القيم السلوكية للدولة الوطنية باعتبارها المهاد المطلوب لبلوغ دولة الحلم المؤجل في كل اقطارنا العربية المهددة بقوانين الحاكم المعصوم ونظام وهوس الامارات الاسلامية وانفاق السمع والطاعة.. ولكي لا يستفرغنا القنفذ السياسي اليساري او القومي بشعاراته المتغطرسة حول الانجازات العملاقة من النظم السياسية الرائدة التي حققها احدهما يتعين علينا اعادة اكتشاف وتشكيل الحامل الاجتماعي للدولة المدنية غير القابلة للوقوع في مأزق العصوبيات المتخلفة.

قد يعجبك ايضا