الزبيري وشجرة القات
هشام علي

هشام علي –
لا أدري إن كان الشاعر والمناضل محمد محمود الزبيري جالسا يحلم في حقل القات يفكر في جزيرة «واق الواق» المفقودة التي ظل السندباد يبحث عنها في البحار السبعة أم أنه كان يفكر بالثورة المستحيلة في أرض اليمن أرض العجائب الأخرى التي يختلط فيها الحالمون بالثورة بأعدائها ويلتقي فيها الثوار بالخونة تتناثر أوراق الواقع والحلم وتضيع مصائر الرجال وتتداخل مصارع عشاق الوطن مع المتلاعبين بمصيره وبدلا من اختيار المعراج إلى السماء والرحلة إلى الجنة والنار للبحث عن شهادة الشهداء ومصائر الخونة كما فعل الزبيري في روايته الشهيرة «مأساة واق الواقع» يلتقط الكاتب العربي السوري حيدر حيدر تلك اللحظة من الحلم ليسرد حكاية أخرى للزبيري حكاية لا تصعد إلى السماء بل تمكث في الأرض.
والكاتب حيدر حيدر قاص وروائي عربي مهموم بالثورة العربية وهو كاتب قومي يتجه يسارا يسار الفكر ويسار التقدم الذي خرج من رحم النكسة العربية في 1967م وقد اكتسب شهرة واسعة بعد مصادرة روايته «وليمة لأعشاب البحر» عند نشرها في مصر في طبعة ثانية من قبل هيئة الكتاب وذلك في التسعينيات من القرن الماضي وكانت الرواية قد صدرت في بيروت قبل ذلك بسنوات ولم يعترض عليها أحد.
مصادرة الرواية في مصر والحملة على كاتبها كانت إشارة مبكرة إلى قوة التيار الإسلامي وإعلانا بأن الإخوان قادمون.
كان حيدر حيدر الكاتب التقدمي اليساري يكتب رواياته وقصصه مستلهما مناخ الثورة العربية من فلسطين إلى الجزائر واليمن عابرا على الدوام ببيروت حيث كان يتجمع المثقفون والثائرون العرب من كل بلد كان هذا مناخ الحركة القومية العربية في الستينيات والسبعينيات حتى بعد أن مالت في اتجاه اليسار.
وكان حيدر حيدر يكتب دائما وعينه صوب اليمن إن آخر صفحة في روايته الشهيرة «الوليمة» كانت تتحدث أو تصف صخرة مضيئة في نهاية المسار البحري للسفينة التي ركبها ذلك المثقف الثوري الذي عاش انكسار الثورة في الجزائر وضيق مناخ الحرية في بيروت وحين صعد المركب المتجه جنوبا ظهرت له صخرة مضيئة في نهاية البحر كانت تلك عدن النجمة الحمراء التي تجري في البحر.
وفي مجموعته القصصية «الفيضان» كتب حيدر حيدر قصة بعنوان «النمل والقات» وبطلها هو المناضل الزبيري وإن كان الكاتب قد أحدث تغييرا بسيطا في الاسم ليعطي إيحاء بالمتخيل فهو لا يكتب قصة واقعية عن حياة الزبيري بل ينشئ صورة متخيلة لأحلام الشاعر.
تتحدث القصة عن نملة تسعى في قدم محمود بن عبدالله الزبيري وهو قاعد تحت ظل شجرة يمضغ القات كان الرجل يحس بخدر لذيذ بفعل مضغة القات التي يحركها في فمه حتى أنه لم يأبه لجيش النمل الذي أخذ يتسلل في جسده كله.
حلم الزبيري في جلسته تلك بعوالم غريبة رأى أنه «يطير فوق الحقول والجبال حتى يصل إلى مواطن النجوم ورأى هذه النجوم وقد تحولت أزهارا (…) ثم رأى أن هذه النجوم قد تحولت إلى كرات من الذهب راح يبيعها في ساحة المدينة ويشتري بأثمانها بنادق وخيولا وصقورا وكلابا للصيد».
استمرت أحلام الرجل المستلقي تحت الشجرة بينما النمل يسري في كل جسده «نام محمود بن عبدالله الزبيري بينما الشمس تدخل غيابها وحمله السبات العميق نحو جزر نائية مليئة بجنيات البحر والكنوز المخبأة كنوز من الياقوت والماس والقات ورأى أن جميع هذه الجزر بكل كنوزها وصخورها وشجرها قد تحولت إلى غابة من شجر القات فطوقها بكلتا ذراعيه وراح يمضغها بوحشية لذيذة كان النمل قد تحول الآن إلى جيوش زحفت من كل فج عميق فضلت جسد الرجل الحالم وراحت تجوس خلاله بحرية مطلقة وإذ تأكدت بغريزتها النملية أن الرجل قد استوى خارج محيط اليقظة وأن المضغ قد توقف رنت إلى ضحكته العريضة الساكنة ثم بدأت عملها الدؤوب بهذه الغنيمة التي تحولت إلى ما يشبه الجثة».
الزبيري الذي يرد في هذه الحكاية هل هو مجرد اسم شخص يمني يشبه اسم الشاعر المناضل محمود الزبيري أم أن الكاتب يقصد الزبيري الشاعر والمناضل الرمز الذي يعبر عن الثورة اليمنية¿ لا شك أن الاختيار الأول سوف يسقط الحكاية في العادية والمألوف وأن الدلالة سوف تقتصر على حالة محددة ترتبط بالقات وحالة الخدر اللذيذ التي تجعل الإنسان يغيب عن الوعي ولا يحس بما حوله.
وأكاد أجزم أن هذا القصد لم يكن يخطر ببال الكاتب حيدر حيدر فهذا الكاتب الحالم بالثورة والمهموم بالانكسارات والهزائم العربية والثورات المحبطة ليس معنيا بحالات اللاوعي الناجمة عن القات والخمر والحشيش وغيرها فهذه الشخصيات لا تجد مكانا في قصصه ورواياته إنه يفتش عن الإنسان العربي المقهور المثقف المنكسر والثائر الذي يعاني من إخفاق الثورة وفشلها لذلك أرى أنه يلتقط الزبيري المثقف والمناضل الذي يعيش لحظ