العمارة والأسطورة



> أبوظبي ـ هو كتاب فريد في طرحه للتعبير الجمالي الذي لا يزال يشع بدفئه وألوانه إلى اليوم عن النظرية المعمارية كما أنه طرح ملح وعميق في زمنه ولا يزال يجذب إليه المهتمين والباحثين ويقود إلى تجدد الإلهام ولذلك فإن كتاب «العمارة والأسطورة والروحانيات» يعد كتابا ممتعا وحري بالقارئ المعاصر الاطلاع عليه وتكوين رأي فيه ففيه الكثير مما يشحذ الذهن ويرتبط بما نعيشه اليوم من شح الموارد وغموض جذور الماضي وانقطاع الأسباب.
يشرح وليام ليثابي في كتابه الصادر عن مشروع «كلمة» للترجمة التابع لهيئة أبوظبي للثقافة والتراث أن العمارة والبناء أمران مختلفان عن بعضهما بل هما منفصلان تماما وإن سكنت العمارة البناء سكن الروح بالجسد وهذه الفكرة هي مفتاح كتاب ليثابي الرائد في طرحه للنظرية المعمارية باقتراح وجود منطق شامل عبر الزمان والمكان بدأ في فجر التعبير الجمالي في أواخر القرن التاسع عشر وما بعده.
ويمتاز عمل ليثابي بروح طموحة يقترب معها مفهومه للنظرية من جذوة لهيب الفكر الإنساني ويقتبس منها ما ينير ظواهر تعبيرية وممارسات تجميلية في العصر الفكتوري عصر المؤلف ويحاول في الوقت نفسه تسليط الضوء على ممارسات أخرى بذات القبس في نقد لبق رشيق جاء متسقا مع روح عصر شهد صحوة في تقييم مصادر التعبير وأصول الفكر الإنساني.
وبخلاف المبدأ الفلسفي في تقييم مصادر الفكر تميز ليثابي ذو الخلفية المعمارية الحرفية بنظرة عبرت بلادا ومعتقدات وأزمان بيسر ظاهر واتزان نأيا بالطرح عن تجرد الفلسفة كما عن تقنية البناء وحرفته إلى مزج التوثيق البحثي بتشويق الأسطورة والطرفة في منظومة بها من جاذبية الغموض وسعة التحليق للخيال الشيء الكثير. ويزيد النص تنوعا وملاءمة لمختلف فئات القراء من عموم المهتمين إلى الباحثين أن ليثابي مهندس وبان تبدو درايته بالتفصيل في دخائل التكوين ومقدرته على شرح سمات هيكلية أو منطق وظيفي كلما استدعى الأمر.
وتحوي فصول الكتاب (12 فصلا) الذي ترجمه للعربية د. طه عبدالعزيز الدوري تسلسلا يقوم على طرح رموز معمارية تكرر ورودها عبر الزمن في إشارات متقاربة – يقترح المؤلف أنها في الأصل واحدة- على اختلاف المكان والظرف وأساليب البناء. فبعد مقدمة تطرح ضرورة التعبير الجمالي لاستقرار النفس وعلاقة العمارة بالبناء- كعلاقة الروح بالجسد كما ذكر من قبل- يتناول الفصل الأول النماذج التقليدية والأسطورية لما يسميه المؤلف «نسيج العالم» وهو النظام الهيكلي الذي ترتفع به السماء فوق الأرض وارتباط السماء بها. يلي ذلك تناول التعبير عن هذه التطورات الكونية من خلال دور العبادة البوذية وغيرها من المعابد الأولى التي قامت على مفردات إنشائية مستعارة من التصورات التقليدية لعلاقة السماء بالأرض كما في القباب المحمولة على مكان دائري للعبادة وهو التكوين النمطي للـــــ»ستوبا» المعبد البوذي التقليدي بحجمه الصغير نسبيا وتكوينه الانطوائي المتمركز حول مكان العبادة تحت القبة في إشارة لمركزية المعبود في السماء.
وتأتي هذه التصورات للكون كمحور لما يلي من فصول تتتابع فيها أمثلة عن التعبير المعماري عن علاقة البناء بالجهات الأربع على اختلاف المواقع والظروف فيناقش صلة دور العبادة والعصور بقواعد راسخة تفسر اختيار مكان البناء بالتناسب مع حركة الشمس ومسار القمر.
يلي مغزى الجهات الأربع تحديد مركز فكري وروحي للعالم المأهول ويقدم ليثابي مدينة القدس كمركز متعارف عليه وإن كان طرحه لهذا العرف أقرب لمعرفة تراكمية غير مبنية على مرجع فكري موحد أو قاعدة مرتبطة بزمن أو مذهب فكري. تتسلسل الفصول التالية في بحث عن رموز مستقاة من الطبيعة أو تشبه بأصول طبيعية قد ظهرت بالتعبير المعماري لتمثيل مفردات كونية في سياق البيئة المبنية. بدأ بالشجرة التي تحمل الأحجار الكريمة وهي في الغالب شجرة من معدن ثمين كالذهب أو الفضة وقد ازدانت فروعها بالماس والياقوت والزمرد والعقيق ثمارا تعني الحياة. وتجمع الشجرة في تفاصيلها جمال الصورة وبهاء الكون لما يطرب من النغم حين يتغلل النسيم أغصانها مداعبا أوراقها المعدنية وثمارها الصخرية البلورية فيختلط رنين المعدن بالبلور في مؤتلف من نغم ولون وانعكاس الضوء يستغرق الحواس.
ومن شجرة الحياة إلى مدارات الكواكب وما اتصل بها من معان فلكية وتصاميم معمارية فسرت الظهور المتكرر للكواكب وما أشار إليها في مباني القدماء ويناقش ليثابي في هذا الموضع تقارب أشكال الاقتباس ومعانيه من مكان لآخر ومن بلد لآخر. ويتابع من مسارات الكواكب إلى متاهات Kabyrinth ولها ظهور واسع النطاق منذ الأساطير الإغريقية القديمة وفكرة الموت في أحضان الرجل الثور الذي عاش في أقبية قصر كنوسوس في كريت وتعددت ضحاياه حتى هزم الحب أسطورته حيث أعطت أريادني Ariadne العاشقة الذكية طرف الخيط لثيسيوس Thesius المقدام مسبغة ذكاءها ودفء عاطفتها على بطولة ثيسيو

قد يعجبك ايضا