رواية عن عالم الصم والبكم



< في رواية «يدا أبي» اختار الكاتب الأميركي مايرون أولبرغ شظايا من عالمه الخاص كطفل ليسلط من خلالها الأضواء على الفواصل التي تقف بين عالم الصم والبكم والعالم الصوتي وهي فواصل اجتماعية وبيئية ونفسية قبل أن تكون تقنية تتعلق بحاستي النطق والسمع. واعتمد الخط الزمني التقليدي في معالجة الحدث الروائي وتطويره فالرواية تبدأ مع ولادة الكاتب عام 1933 لتشير - من خلال ظروف هذه الولادة - إلى أبويه الأصمين وخلفيتهما الاجتماعية في باقة من المفارقات. وفي خضم أزمات على المستوى اليومي عاشها الفرد الأصم تلك الفترة نتيجة لسوء فهم المحيط له واعتباره (معطوبا).
يجد والد أولبرغ وظيفة وسط ضجيج آلات الطباعة. من هنا تبدأ الحياة بالتأرجح مرة لصالح الأب العنيد والمثابر والمصر على تساويه في الحقوق مع الآخرين ومرارا لصالح مجتمع خرج من الحرب العالمية الثانية كما دخلها: غير مؤمن بحقوق الصم والبكم وبلغتهم الخاصة وهي لغة الإشارة التي يعتبرها أولبرغ الأبلغ من لغة اللسان لتدخلö الجسم كله فيها. وبخفة حكواتي محترف ننفذ إلى عالم المؤلف الشخصي عالم جدير بعمقه وبساطته وغرابته وخصوصيته لكنه جدير كذلك بأن نتقاسمه جميعا وأولبرغ الكاتب المعروف بمؤلفاته للأطفال والتي نال عنها جائزة تقديرية يعتمد أسلوبا توصيفيا مباشرا سرديا حميميا يحول المادة التي بين يدي القارئ إلى ملكية شخصية كما يحول عالمه «المنمنم» والخاص إلى حديقة من المعاينات التي تسير فيها الفكاهة والتأمل جنبا إلى جنب. ولأنه ولد لأبوين أصمين خلال الثلث الأول من القرن المنصرم فإن ذلك لا يمر مرور الكرام أمام ناظري المجتمع المحيط به إذ أن الاشخاص المصابين بعاهة خلقية كان ينظر إليهم كأناس لا تتوافر فيهم شروط الإنسان «الطبيعي» وكانوا ينبذون أو يستغلون في أحسن الأحوال.
ولادة الصبي مايرون تشكل خشبة الخلاص للأب صاحب سوء الفهم المزمن مع محيطه القائم على الصوت إذ يولد الابن سليما قادرا على النطق والسمع وهو ما يشكل إغراء وجوديا للوالد فيعمل بكل السبل على تعزيز «ذاكرة الصوت» لدى الطفل مرعوبا من احتمال تحوله مستقبلا إلى مثيل مصغر له. ينفذ أولبرغ من خلال هذه الأحداث الدقيقة إلى أزمنة أبعد مكمöلا إطار صورة أبيه مذ كان طفلا ثم شابا وأخيرا رجلا متزوجا ووالدا ورغم توزع الرواية بين أبيه أمه وأخيه إروين غير أن مايرون أولبرغ يقرöب المجهر أكثر من صورة الأب مقارنة بالآخرين فهو بعيد بلوغه السنوات الأولى من حياته يتحتم عليه ملازمة والده كـ «قناة صوتية» أو مجرد أداة للاتصال مع العالم الخارجي والتفاهم معه يصبح الولد مطلوبا بشكل أو بآخر للعمل ويتم استدعاؤه للقيام بتفسيرات كما لتبليغ رسائل فالوالد يرى فيه الترجمان السريع والمؤدي دوره دون اعتراض. ويتولد من معاناة الأب البالغ في الحياة اليومية إشكالية فرعية عند الطفل سرعان ما تتعاظم وتستمر حتى بلوغه ويكون محورها السؤال عن ماهية العلاقة مع هذا الأب. وكما يريد الأب إيجاد حيزه والبرهنة على «طبيعيته» اجتماعيا وسياسيا ودينيا وأخلاقيا يبدأ الابن بالبحث عن جدواه عن فرديته وأحلامه التي لها مقاس جسمه وعمره والتزاماته تجاه نفسه كطفل أو مراهق أو شاب جامعي من هنا يتيح الكاتب لقارئه التنقل بين اهتمامات الأب ومثلها عند الابن تتسع سلة المفارقات ونشهد تطورات تكون بالنسبة لنا بمثابة مفاجآت صغيرة في مناخ دافئ وحساس حد الألم.
ولمايرون أولبرغ في هذا العمل الأدبي (بنصه الأصلي بالإنجليزية) لغة يتجاذبها طابعان أساسيان: السرد والزمن. فالسرد السهل والهادئ المباشر المتأمل الطريف وغير المزخرف بالتحليل السيكولوجي يمثل القناة التي يتم داخلها شبك خيوط الشخصية الأساسية (الأب) وظلها (الابن) بمقتضى العمل فبينما تثقل شخصية الأب بأسئلة فيزيولوجية جدلية وبدائية أحيانا حول الصوت وماهيته تمثل هذه الأسئلة مفاتيح أساسية لإدخال القارئ في شخصية الطفل ومزاياها وهواجسها وسأمها وميولها فهي أسئلة تلح على استنطاق وعيها بشكل اضطراري وعاجل. لكننا نكتشف أن هذه العلاقة مؤطرة بكادر مؤلف من عامل زمني عام: زمن الأحداث اجتماعيا (كيفية تفاعل كتلة العالم السمع مع فرد أصم) وسياسيا (أزمة وول ستريت/ الحرب العالمية الثانية وما بعد) وعامل زمني خاص: زمن الطفل (سنه/ ومن ثم نضجه الذي يظل رهنا بمحفورات في ذاكرة الطفل).
إلا أن علاقة النص بالزمن سرعان ما تتجاوز انعتاقها في المضمون فنجد أن عامل الزمن يوظف بصورة تقنية أولا لتثبيت بنية العمل ككل وخطه العام وثانيا لرفع جمالية الحكايات المستقلة عن بعضها في فصول وثالثا لإفلات النص من أي خضوع ممكن لترتيب (كرونولوجي) قسري وبالتالي يؤمن هذا الأمر للكاتب التخفف من أجزاء الذاكرة المنسية وعدم ا

قد يعجبك ايضا