الكـــرة والسياســـة
د. حسن حنفي
د. حسن حنفي –
ظن بعض المحللين السياسيين أن النشاط الكروي الزائد في مصر قبل الثورة إلى درجة التحزب والعنف إنما كان تعويضا لاشعوريا عن التغييب السياسي وإبعاد الناس عن العمل السياسي واستئثار الحزب الحاكم بالسلطة ومعرفة نتائج الانتخابات مسبقا أغلبية مطلقة للحزب الحاكم عن طريق التزوير وإبعاد المعارضة عن مجلسي الشعب والشورى. والتحزب للنوادي أهلاوي زملكاوي إنما هو تعويض عن التحزب السياسي “إخواني” “وفدي” ليبرالي ناصري. كما أن قدرة التحزب الكروي على تجنيد الجماهير تعويض عن قدرة التحزب السياسي والمعارضة الفئوية وحشد الثورة لطاقات الجماهير. فالحضور الطاغي للكرة تعويض عن الغياب الطاغي للسياسة ما قبل الثورة. وكانت الدولة تشجع مثل هذا التحزب الكروي بتجنيد أجهزة الإعلام التي هي تحت سيطرتها لهذا الغرض وحشد قوى الأمن والشرطة لحراسة “الاستاد” الذي تجرى فيه المباراة. وتنظم الجماهير في المدرجات دخولا وخروجا قياما وقعودا. وتحرس المظاهرات في الشوارع التي تحمل الأعلام وتصدح بالهتافات حتى الصباح. ويصنف الناس بين الولاء للنوادي ورموزها وألوانها بدلا من الولاء للأحزاب وشعاراتها.
بل لقد نشأت في السنوات الأخيرة ظاهرة “الألتراس” وهو لفظ معرب عن اللفظ اللاتيني ultra بمعنى الحد الأقصى أو الذروة. وهو تطرف مقبول. وهم الشباب شديدو الولاء لأنديتهم الرياضية في حين أن التطرف السياسي مرفوض. والتطرف واحد وهو المغالاة في الولاء إلى درجة التحزب الأعمى. لهم زي معين ولون معين وهتافات خاصة وحركات مميزة كما كان الأمر في الشباب السياسي القمصان الخضر في حزب “مصر الفتاة” شباب “الطليعة الوفدية”. وترفع أعلام النصر بعد المباراة للفريق المنتصر وتنكس أعلام الهزيمة للفريق الخاسر وكأن البلاد تمر بذكرى عيدها الوطني أو بذكرى هزيمتها في يونيو 1967م أو في ذكرى ثورة يوليو 1952م أو في ذكرى حرب أكتوبر 1973م أو ثورة يناير 2011م أو العدوان الإسرائيلي المتكرر على غزة. وقد يستعمل العنف بين جمهوري الناديين المتلاعبين ويسقط الشهداء. ويعلن حالة الطوارئ وكأننا في انتفاضات شعبية مثل يناير 1977م أو الأمن المركزي في يناير 1986م. وتستمر المظاهرات من جماهير النادي المنتصر حتى صباح اليوم التالي وإطلاق الصواريخ ورفع الأعلام. ويستقيل مدرب النادي المهزوم أو يقال رئيسه.
وقد استطاعت ثورة يناير 2011م حشد الشباب وتجنيد المليونية وتجميع كل القوى السياسية القديمة والجديدة نحو هدف واحد “الشعب يريد إسقاط النظام” الذي تحول إلى “الشعب يريد إسقاط الرئيس”. وتحققت الوحدة الوطنية على الأرض بين إسلاميين وليبراليين وناصريين واشتراكيين وماركسيين مسلمين وأقباط ضد نظام القهر والاستبداد ودفاعا عن الحرية والكرامة. واختفى التحزب الكروي داخل الثورة الشعبية. ولم يعد العداء بين الأندية الرياضية بل بين الثورة والثورة المضادة الممثلة في الفلول بقايا النظام السابق وكانت ذروتها في “موقعة الجمل” أثناء الثورة وفي أحداث بورسعيد بعد الثورة. وسقط الضحايا في الثورة كما سقط ضحايا الثورة المضادة. واهتزت مصر عن بكرة أبيها وكسر الشعب حاجز الخوف. واستمرت المظاهرات لاستكمال تحقيق أهداف الثورة من رأس النظام إلى جسم النظام الذي ما زال متغلغلا في جهاز الدولة ويحاول امتصاص الثورة واحتواءها من أجل عودة النظام السابق. فالمال والسلطة والحزب ما زال موجودا.
واستغلت الثورة المضادة التحزب الكروي للتسلل من خلاله لضرب الثورة عن طريق “البلطجية”. فالتحزب موجود ويكفي إشعال الفتيل. والتعصب موجود وتكفي إثارة نعرته. ووقعت أحداث بورسعيد وسقط العشرات. وأثبت النظام السابق أنه ما زال يمسك بزمام المبادرة حتى بعد الثورة. التحزب الأعمى موجود والكوادر موجودة والمأجورون موجودون. الرأس ثورية ممثلة في الميدان والجسد ثورة مضادة ممثلة في جهاز الدولة. وإذن يكون السؤال: كيف يتم التحول من التحزب الكروي إلى التحزب السياسي¿ كيف يحل الوطن محل الكرة¿ كيف تشجع الكرة على المنافسة الشريفة والتطلع إلى الكمال والرغبة في الرقي المستمر¿ أليس هذا هو المقصود بحديث “علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل”¿ وهو بالتعبير العسكري الحديث سلاح البحرية وسلاح المدفعية وسلاح الفرسان. كيف يتحول الحشد الكروي إلى الحشد الثوري والعداء ضد الأندية الرياضية إلى عداء ضد الثورة المضادة في الداخل وأعداء الوطن في الخارج¿ كيف يجند الشباب كل طاقاته للثورة بدلا من توزيعها بين الثورة والكرة¿ كيف يحفظ الشباب الثوري الثناء عليه بدلا من أن يتحول إلى سخط على الشباب الكروي¿ إن الثورة تفصل ما قبلها التحزب الكروي وما بعدها التحزب السياسي.
طالما أن التحزب الكروي ما زال موجودا فإن الثورة لم تهز بعد وجدان الشباب. ولم تخرج بعد من أعماق الشعب. طالما أن البديل الكروي هو البديل الثوري قبل الثورة وبعدها فإن ا