
المكلوم/ توفيق الحرازي –
رحل الأشموري عبدالكريم.. الفنان الملتزم والممثل المثقف والمثقف السياسي نجم التمثيليات الإذاعية وصاحب الفكاهة الهادفة والإضافة النوعية ومجدد الدراما التلفزيونية الضاحكة!!
رحل القلب النابض بالحب والعمل والإبداع والتجديد الفكاهي.. غادر في عنفوان الشباب ودون سابق إنذار ليترك ثقبا في كل قلب.. وأجساداٍ تسمرت من هول الصدمة.. وأعيناٍ تسحْ دمعاٍ على رحيل مبكر لم يئن أوانه وفراق لم يتوقعه أحد.. وألسنة خرساء عاجزة عن قول شيء- سوى “لا حول ولا قوة إلا بالله- إنا لله وإنا إليه راجعون!!
ما وراء غيبوبة الأشموري
هذه المرة كان الأشموري يعمل كان ينتج كعادته للشهر المبارك مع صديقيه وشريكي إبداعه الرمضاني الحبيشي والعلفي لكن عودته هذا العام جاءت بعد توقف إنتاجهم الرمضاني العام الفائت على فضائية اليمن- نتيجة الأحداث المضطربة التي شلت حركة الإنتاج تماماٍ وأغلقت شركات كثيرة تعرضت للإفلاس.. ولأن مجيء رمضان هذا العام بدأ مستقرا- وباعثا على الأمل في تحسن الأوضاع في البلد- عادت الروح للمنتجين كغيرهم.. فكان السباق محموما لاستعادة النشاط الإنتاجي ورفد الفضائيات بأعمال جديدة تعوض خسائر العام الماضي!
لعل ما زاد من ترمومتر التفاؤل لدى منتجينا أن الفضائيات اليمنية تضاعف عددها هذا العام.. ما يعني إقبالا متزايداٍ على شراء الإنتاج التلفزيوني واتساع الفرص أمامه كما في بلاد الله الواسعة.. غير أن الرياح في اليمن- تأتي دائما بما لا تشتهي السفن!!
ففي كافة الفضائيات العربية يبدأ التحضير للأعمال الرمضانية قبل عام على الأقل.. وبالذات الأعمال الدرامية والتمثيليات التي تأخذ وقتا طويلا وتكاليف باهظة للتحضير والإنتاج.. لهذا يغامر المنتجون في ضخ أموالهم والصرف على أعمالهم من جيوبهم كي ينجزوا مبكرا لأنهم واثقون من شرائها في بلدانهم وبيعها لبلدان أخرى..
عامل الثقة بالقنوات هو الذي يجعلك تصرف من جيبك وتبدأ إنتاجك مبكرا قبل أن يداهمك الوقت مادمت تضمن أن هناك من سيشتري منك عداٍ ونقداٍ.. هذا في بلدان العالم.. أما في بلدنا فالوضع معكوس تماما فإنتاجك المبكر يصبح بدعة مخالفة للسائد والصرف من جيبك مغامرة غير محسوبة قد تكبدك ثمناٍ باهظاٍ من روحك ومالك لأنك تنصدم بمعظم القنوات حين تعتذر عن شراء أعمالك بكل بساطة- بعد أن تكون قد خسرت خسارة طائلة لإنتاجها.. والبعض لا يشترون منك عداٍ ونقداٍ بل يجبرونك على أن تهدي إنتاجك لهم مجاناٍ- مقابل منحك مساحة إعلانية لست معنياٍ بها لتنتحر في البحث عن إعلانات ورعاة بعد أن تكون قد أجهدت نفسك في تجهيز عملك لتجد نفسك تلعن سنسفيل أْم الإنتاج وحْمى القنوات “الفقاعية” التي لا تقدر متاعب الإنتاج وخسائره القاصمة!
لهذا فالمعتاد عندنا أن لا يتسرع المنتج في إنجاز أعماله مبكراٍ والخسارة عليها من جيبه لأنه لا يضمن أن تشتريها القنوات لتغطية خسارته مهما كانت جودتها بل مطلوب منه أن يظل بانتظار إقرار الخارطة الرمضانية أولاٍٍ وتوقيع العقود خطياٍ حتى لا تذهب جهودك هدراٍ.. والمصيبة أنه يتم إقرار الخارطة متأخرا جدا إما بحسب مزاج القائمين على القنوات أو إلى حين توفر السيولة.. وبسبب تأخرها إلى قرب رمضان يبدأ المنتج عمله الدرامي بعد فوات الأوان وخراب مالطا.. وهذا هو سبب الأخطاء الإنتاجية الفادحة التي يقع فيها منتجونا رغماٍ عنهم!
حين تنتج عملا دراميا للتلفاز في الوقت الضائع- قبل رمضان بشهر أو شهرين- تصبح بحاجة لجهود خارقة جداٍ حتى تضمن الجودة في زمن قياسي لتسلم حلقات جاهزة قبل ليلة الرؤية.. وهذا ما أحسب أنه السبب الذي أنهك جسد الاشموري وزملاءه وأمثالهم..
فالمرحوم الاشموري في عمله الرمضاني (عيني عينك) هو المؤلف الرئيسي إلى جانب أنه البطل المحوري.. وحين بدأ الأمل يعود تدريجيا في تحسن ظروف الإنتاج الرمضاني هذا العام- تهافت المنتجون لتعويض شلل العام الماضي الذي جاع بسببه الجميع لكنهم انتظروا طويلا حتى يتم إقرار الخارطة وتوقيع العقود معهم كان الوقت قد أزف واقترب رمضان!!
وفي ظل ظروف صعبة وفترة زمنية ضيقة كهذه يصبح من الصعب عليك إنتاج أعمال صحفية أو حتى إذاعية فما بالنا بعمل درامي تلفزيوني بكل مافيه من جهود مضنية وتحضيرات مجهدة وطواقم طويلة عريضة وكتابة إبداعية تعتصر الذهن والروح وتحتاج لستة اشهر إلى سنة!
لم يجد المنتجون- ومنهم فريق الأشموري- مناصاٍ من قبول العمل في ظل تحديات زمنية كهذه رغم استحالتها.. فدخل الجميع في صراع مع الوقت يجب أن يتم إنجاز حلقات قبل حلول الشهر المبارك.. فالقنوات تصدمك بتأخرها في إقرار الأفكار والتصورات والعقود الإنتاجية ثم تطاردك لتسرع في إنجازها في الوقت الضائع.. ليس أمامك حينها إلا أحد خيارين إما أن (تكلفت) وتنجز عملا رديئاٍ وإما أن تنهك نفسك لتضمن الجودة وتشرف نفسك.
ولأن الاشموري وزملاءه من النوع الحريص على عمله ويتميز بأعمال نوعية اضطر لخوض التحدي لم يستسلم فإما أن ينتج في هذا الزمن الضيق جدا أو أن يطير رمضان كسابقه كانت خسارة العام الماضي فادحة على المنتجين عندما تعطلت كل الأعمال الإنتاجية وأغلقت معظم الشركات وأفلس الكثيرون لهذا تعلقوا بالأمل هذا العام لتعويض خسائرهم والوقوف على أقدامهم من جديد- لكن بعد فوات الأوان إذ لم توفر القنوات فرصة مبكرة لهم..
لهذا السبب وضع الاشموري نفسه في حالة استنفار قصوى للتأليف والسيناريو مع زميليه.. أجهد نفسه في التحضيرات والبروفات دخل في صراع مع الزمن.. كان عليه أن يبذل جهودا خارقة ومتاعب فوق طاقته حتى يتمكن من كتابة حلقات وتسليمها للمخرج أولا بأول ثم تمثيلها أولاٍ بأول باعتباره الشخصية المحورية ومن أهم الوجوه التي ينتظرها الجمهور في رمضان كان عليه الإسراع بكل طاقته كي يلحق القناة قبل أن يداهمها رمضان.
أخبرني شريكه- الزميل محمد الحبيشي- انه كان يشعر بتعب المرحوم قليلاٍ لكنه كعادته يرفض الاعتراف بالإجهاد.. ربما لأنه اعتاد أن يؤلف ويمثل في كل رمضان بل ويمثل للإذاعة فوق ذلك أي أنه في السابق كان يبذل جهودا أكثر.. فما الذي أنهكه هذا العام بالذات¿¿
لم يكن يدرك وهو في غمرة الانهماك أن الأقدار تتربص به وأن اعتصار الروح والذهن والجسد في زمن قاتل كهذا قد يعطل المخ والقلب سيما إذا كان لديه بداية داء سكري وضغط وبقايا كلية شبه معطلة ضمرت من شدة الاجهاد!!
بجانب إيماننا بحتمية القضاء والقدر واضح أن “ابن الأشموري” وقع ضحية الاستهتار القاتل لقنوات لا تحترم قيمة الوقت مطلقاٍ اعتادت أن تتأخر في إقرار خارطة رمضانية متأخرة أصلاٍ وأعمالا تلفزيونية مجهدة جداٍ وتوقيع العقودبعد فوات الأوان.. ليجهد المؤلفون والممثلون والمخرجون والمنتجون انفسهم ويستهلكوا أعمارهم للإيفاء بالتزاماتهم قبل رمضان!
مهزلة قاتلة كهذه تستنزف الروح والعمر قد تكلفك فقدان قامة فنية كبيرة بحجم الأشموري- يصعب تعويضها وملء فراغها.. ولن يمر وقت حتى نشعر بهذا الفراغ حينها سنصحو على دراما يتيمة ذات اتجاه واحد- فاقد للتنافس… وسيكبر مصابنا حين نتلفت فلا نجد الأشموري في رمضان القادم!!… سنفتقدك يا عبدالكريم وسنكرمك دوماٍ بعد أن عز تكريمك حياٍ.