من هنا عبرت الجماهير معلنة شرعية الشعب لثورته الخالدة 26 سبتمبر 1962م ومن هنا مر الزعيم العربي القومي جمال عبد الناصر برفقة المشير عبدالله السلال أول رئيس للنظام الجمهوري وهنا تبقى للانسان اليمني بصمات الصمود والخلود..
على مسار الحركة الوطنية ظل “باب اليمن” رمزاٍ وقبلة للجماهير وبوابة لعبور الشعب إلى حيث أحلامه العظيمة منذ أربعينيات القرن الماضي – على سبيل المثال لا الحصر – فمصراعاه يحملان بصمات من التاريخ العريض لمحاولات العابثين من الطغاة والأعداء النيل من أصالة وعروبية صنعاء وسكينة نبل إنسانها المجيد ففي الوقت الذي شهد هذا الممر نكسة الثورة الدستورية وحوادث نهب صنعاء كان مكاناٍ لانتصار الحق اليمني انتصاراٍ شعبياٍ وجماهيرياٍ سبق الثورة السبتمبرية بثلاثة أيام سمي بـ(مظاهرات طلبة مدارس صنعاء) التي تبعتها احتجاجات شعبية في صنعاء -باب اليمن لتعم المظاهرات بعدها تعز وأْيدت بمظاهرات في عدن يوم 24 سبتمبر 1962م على خلفية إيداع مجموعة من الطلبة سجون الإمام البدر..
الزمن هنا لا يتوقف فمع دورته المتسارعة انتصرت الثورة السبتمبرية ليكون باب اليمن محطة شعبية ساخنة أكسبت الحدث السبتمبري الشرعية الشعبية المطلقة.. وفي تاريخ 24 أبريل 1964م احتشدت الجماهير اليمنية مرحبة بموكب الزعيم العربي القومي جمال عبد الناصر الذي عبِر باب اليمن برفقة الرئيس المشير عبد الله السلال محييا الجماهير اليمانية في حدث تاريخي لن تنساه ذاكرة الزخم اليماني الثوري المعمد بوحدة الجسد العروبي..
إنه باب اليمن المحاط بمهابة التاريخ فلا تعبير يكفي في هذا المقام لإنصاف حضوره التاريخي لألف عام مضت على صموده الاسطوري.. وها هو اليوم قائم معلناٍ رفض الخنوع في ظل هذه الظروف الصعبة التي تحاول عبثاِ تهديد الهوية اليمنية والعروبية بمثار التشظي.. إذ إن هذا المكان سيظل محشراٍ لعصور الماضي والحاضر وقبلةٍ للمستقبل اليماني المنتصر لا محالة.. لتظل الصورة – فقط – هي وحدها القادرة على أن تعكس معنى الأصالة والصمود حيث تقوم الحياة بكل تفاصيلها اليومية لا ينقصها الزحام والإقبال رغم ما يزيد عن نصف عام من الحصار الجوي والبري والبحري الذي أطبق على اليمن ورغم القصف المتواصل بأحدث الأسلحة الفتاكة على حواضر وأرياف خارطة اليمن وخصوصاٍ على العاصمة صنعاء وعلى المدن التاريخية إلاِ أن “باب اليمن” ظل على محشره اليومي المعتاد دون نقصان بل بزيادة استعاد ذاكرة دوره الجماهيري والثوري المعاصر والإنساني عبر العصور.. هنا حيث تنتصب عتبتا باب اليمن التاريخي الثابت والصامد والواقف -حتى اليوم أمام ما يقارب ألف عام بهذا الشموخ مْرحباٍ بكل عابر إلى معمل الفن المعماري والإنساني الحضري الآسرة رصانته في وجه المعاصرة والمعتق تاريخه منذ نزل سام بن نوح على هذه البقعة الطاهرة من هنا يلج شجن الروح وبريقها الإنساني إلى أكثر الأسواق التقليدية في شبه الجزيرة العربية نظاماٍ وجمالا وأماناٍ وأكثرها ازدحاماٍ على مدار الساعة سوق كان ولم يزل مثل نبض اليمن ومن تقاطر من أبناء المعمورة إلى هذا الدفق الدافئ باتقاد كل أسرار وعوامل واحتياجات الحياة اليومية بكل ما يحتاجه الإنسان في حياته وفي مماته حين تحين ساعة الرحيل إلى البرزخ.. إنه سوق صنعاء القديمة المدينة التي تشير المراجع التاريخية إلى أن أول من وضع أساسات سورها الطيني الحصين هو الملك “شعرم أوتر” في القرن الأول للميلاد.. اليوم يعرف بـ “سوق الملح” ولا شيء في الحياة له طعم الحياة نفسها بدون الملح (اليود)..
كي لا يتوه بنا الروح في معراج مجازاتنا عن باب اليمن إذ يعد الحديث عنه أشبه بالصعود إلى قمة أنسنتها العصور المتعاقبة ليصعب علينا إنصافها.. ففي الفترة الماضية كانت آخر زياراتي له أثناء المظاهرات الجماهرية المناهضة للعدوان ومكاييل الصمت والخذلان الدولي ومناهضة اقحام فريضة الحج في الصراع السياسي وهي المظاهرات التي أخذت لحراكها مكاناٍ هو باب اليمن لتقف الذاكرة على ماضي وحاضر هذا المكان ولكنها تعود إلى راهن هذه اللحظة محملة بإيمان كبير بأن العصر مهما استفحلت حداثته واتسعت به دائرة الحواضر الإنسانية يبقى لمكان كباب اليمن حضور ليس في الحاضر فقط.. بل وفي المستقبل فهو العنوان البريدي الأصيل الذي يبحث عنه مستقبل الأجيال اليمانية.. اليوم ومع مناسبة عيد الأضحى وفي ظل الذكرى الثالثة والخمسين لثورة السادس والعشرين من سبتمبر الخالدة وفي ظل هذه الظروف الصعبة التي تجاوز العدوان السعودي السبعة الأشهر ساكباٍ جام حقده ونذالته على قلب صنعاء(حي الفليحي) بعد أن طال بحقده حي القاسمي.. ومع كل ذلك تجد باب اليمن على حياته وصموده ليس بالوجود البنيوي بل الوجود البشري المقاوم والمنتصر على ترسانة العصر وعدوانه الفاجر والحاقد على تاج المجد إذ أن تاريخ من يقود هذا العدوان عْرف عبر الأجيال بتابعيته لليمن الحضاري خصوصية وهوية وانتماء الجذور ليست اليمن تابعة لسلطات حضارية نشأت على خارطة شبه الجزيرة العربية فما بالنا من حاكمية أسرية مؤسسها حصيلة سياسات استعمارية صنعته ليلغي هويات لها الحق في البقاء وستبقى وتصعد منتصرة على من طمس وجودها التاريخي والإنساني.. باب اليمن على مر هذه الشهور السبعة من العدوان ظل كعادته إذ لم تتقلص حركته وفرحه وطقوسه المعروفة بانتعاش الأسواق رغم مواصلة طائرات عدوان التحالف العربي أزيزها وقصفها البربري مع كل أذان وسِحِرُ وصلاة حتى خلال شهر رمضان شهر الرحمة الذي انقضى في هذا العام والآن أيضاٍ في ظل أجواء العيد الأكبر وشهر ذي الحجة وأحد الأشهر المحرم فيها القتال والمضاعف فيها جرم سفك الدماء وليس مشروعاٍ فيها سوى قتال المعتدي دفاعاٍ عن النفس..
وبالعودة إلى موضوع تحقيقنا المصور عن باب اليمن.. تجدر الإشارة إلى أن هذا الباب الجنوبي لمدينة صنعاء الصامدة منذ اختط بنيانها سام بن نوح عليه السلام يؤكد الحضور الرمزي لباب اليمن عبر تاريخ الإنسانية العريض في شبه الجزيرة العربية أن كل جنوب في شبه الجزيرة العربية هو اليمن لذا سمي بـ”باب اليمن” ليمثل هذا الباب مدخلاٍ – إلى عْمúق تاريخ “آزال” وحاضرة “صنعاء” إلى المدينة الجامعة للتنوع الفكري والعقدي والإنساني الأصيل.. هذه التسمية تبدو الأصدق والأصح ليس لكون هذا الباب هو رمز اليمن بل لاتساق التسمية وجهة المدينة الجنوبية ومن ثم أن الأبواب الأخرى سميت بأماكن مواقعها فباب شعوب سمي نظرا لموقعه في شعوب والسبح وستران وخزيمة وغيرها من الأبواب الستة أو السبعة التي تحكي عنها المراجع التاريخية..
أقول هذا التأكيد والتقارب المنطقي للتسمية كإشارة إلى ما ذهب إليه بعض الباحثين والمؤرخين أن المؤسسين والمطورين لهذا المعلم التاريخي الشهير إنما أرادوا بالتسمية ودلالتها–احتمالا غير مؤكد- “باب اليْمúن” بضم الياء لكنه في نفس الوقت مشتق ودال على تسمية اليمن الأشمل بالعربية السعيدة في مختلف العصور أو اليمن السعيد.. وأي كانت التناولات التاريخية لجوهر التسمية إلا أن الأهم هنا أن هذا الباب هو الوحيد الذي تبقى من الأبواب السبعة ليكون شاهدا على سلسلة من الأحداث التاريخية والسياسية من عبرت جيوش الغزاة ومن خلاله انطلقت جيوش الفاتحين إلى مشارق الأرض ومغاربها..
“باب اليمن” لم يْنسه العصر وحداثة وسائل الحياة فيه ولم يتلاش رغم اتساع صنعاء وميادينها وأسواقها بل ظل روحها ووجدانها حيث ذهبت اتساعاتها المحاطة بظروف صعبة واستهداف متواصل لبشرها ومبانيها وجبالها وجسورها وأنفاقها وأسواقها فهاهي الجموع والجماهير والقلوب تعود له اليوم ليس لكونه الساحة الأهم في مدارات التعبير الرافض لاستهداف وطن بأسره بناسه وأهله وتنميته وأطفاله ونسائه.. بل لكونه حارس الأم الحاضنة لتنوع اليمنيين عقيدة وثقافة وفكراٍ وروحاٍ وإنسانية لقد عاشوا ويعيشون على قلب رجل واحد مظلتهم هي الإنسانية والله هو رب الجميع وحده هو المحاسب وكون هذا الباب منفذ الولوج إلى المنبت الأول لتاريخ اليمن الحضاري ودفقه البشري إلى كل أنحاء الأرض..
إنه “باب اليمن” بوابة النصر والعبور إلى مستقبل اليمن الموحد من مشارف المحيط الهندي شرقاٍ إلى عمق البحر العربي جنوباٍ ومن عمق البحر الأحمر ومياهه اليمنية المستشرفة ضفاف أفريقيا غرباٍ إلى عمق الربع الخالي الممتد – على الشريط الشمالي للجمهورية اليمنية- من حدود سلطنة عمان شرقاٍ إلى ساحل البحر الأحمر المحاذي لعسير ونجران غرباٍ هو ما كان في خارطة الأقاليم اليمانية بـ”إقليم الأدارسة”..
وأخيرا .. “باب اليمن” بطابعه المعماري والهندسي الفريد هو جزء من سور صنعاء القديمة الذي يقترب طوله من الـ(7) الكيلو مترات وبارتفاع (8) أمتار .. كما أن هذا السور بحد ذاته يجسد بناء عريضاٍ بنحو 2-3 أمتار وهو متكامل القيم النفعية والجمالية حيث يحوي على طول امتداده غرفاٍ ودهاليز وأسطح ونْوِب حراسة كما أن تلك الأسطح المتصلة وفرت فرصة وطريقاٍ لتجوال السياح على منازل صنعاء القديمة التي يحيطها السور الذي تم تطويره مرحليا منذ عهد ملك سبأ ذو ريدان الذي كان يحكم كثيراٍ من بقاع اليمن في أواخر القرن الثاني بعد الميلاد- حسب ما يشير إليه علامة اليمن أبو محمد الحسن الهمداني في كتابه الإكليل.