حلم السلتيليوسا .. الوجوه الثلاثة للبطل

رواية حلم السلتي (ترجمة صالح علماني دار طوى لندن 2012) هي أجد أعمال الكاتب العالمي البيروني ماريو بارغاسيوسا وبما أنه قد نال جائزة نوبل في العام 2010 م وصدرت هذه الرواية عقب حصوله على تلك الجائزة المهيبة فإن قراءه المتناثرين في القارات الخمس تلقفوا هذه الرواية بلهفة شديدة أكثر من أي وقت مضى. لكن بالنسبة للقراء المتعجلين وهذه حالة السواد الأعظم منهمفإن الرواية بدت مخيبة للآمال ربما لأن القارئ قد رفع سقف توقعاته بسبب كون كاتبها قد صار نوبلياٍ. تتحدث الرواية عن رجل حقيقي ولد عام 1864 في أيرلندا هو (جورج كيسمنت) الذي ترقى في المناصب الديبلوماسية وشغل منصب قنصل بريطانيا العظمى في العديد من البلدان ثم أعدم بتهمة الخيانة العظمى في عام 1916. تتوزع الرواية على ثلاثة فصول رئيسة تشكل المحطات الكبرى في حياة بطل الرواية هي بالتتابع: “الكونغو الأمازون أيرلندا”. في سن الخامسة عشرة هجر جورج كيسمنت الدراسة بعد فقده والديه واتجه للعمل ليعيل نفسه في شركة لتجهيز السفن في مدينة ليفربول. وعندما أكمل العشرين عاماٍ غادر بريطانيا واتجه إلى إفريقيا. وبسرعة تمكن هذا الشاب المْحب للمغامرات من شغل منصب قنصل بريطانيا العظمى في الكونغو وهي الدولة الواقعة آنذاك تحت الاحتلال البلجيكي. كانت صرخات أهالي الكونغو المستنجدة من ظلم البلجيكيين تصل إلى مسامع جورج كيسمنت فاقترح على وزارة الخارجية البريطانية أن يقوم برحلة إلى أعالي الكونغو والمناطق الداخلية للتحقق من صحة تلك المزاعم ورفع تقرير عنها. وفي عام 1904 نشر التقرير الذي أثار دوياٍ هائلاٍ في العالم وكان أول وثيقة رسمية صادرة من حكومة غربية حول فظائع الاستعمار. وعقب نشر التقرير صار مستحيلاٍ عليه العودة إلى عمله قنصلاٍ في الكونغو وهو الذي صار أكثر شخص في العالم تكرهه الحكومة البلجيكية وملكها المستبد ليوبولد الثاني وبعد فترة قصيرة تم تعيينه قنصلاٍ في البرازيل من عام 1906 – 1910 حيث قام برحلة أخرى في مجاهل غابات الأمازون بتكليف من الحكومة البريطانية لكتابة تقرير عن الأوضاع هناك. ومرة أخرى فضح جورج كيسمنت الأوضاع الجهنمية التي يقاسيها السكان الأصليون من تجار المطاط الجشعين وترددت أصداء التقرير في جهات الأرض الأربع. كوفئ جورج كيسمنت بلقب (سير) وحصل على تقاعد مريح ومن ثم أطلت برأسها المرحلة الثالثة من حياته وهي مرحلة الكفاح من أجل استقلال بلده أيرلندا. قام بالتعاون مع الألمان إبان الحرب العالمية الأولى وكانت لديه خطة القيام بانتفاضة مسلحة في دبلن بالتزامن والتنسيق مع هجوم ألماني وإنزال بري على شواطئ أيرلندا. انتهت الانتفاضة بالفشل الذريع والألمان لم يتجرؤوا على الاقتراب من الشواطئ الأيرلندية فألقي القبض على جورج كيسمنت وصدر بحقه حكم الإعدام. فيما بعد نالت أيرلندا استقلالها عام (1922) ويعد اليوم جورج كيسمنت بطلاٍ قومياٍ للشعب الأيرلندي.
البناء الروائي وظلال ماركيز
تبدأ الرواية وتنتهي في سجن “بنتونفيل” بلندن. نعيش مع بطل الرواية عدة أشهر وهو سجين يتأرجح بين اليأس والأمل. لقد قدم طلب استرحام للحكومة البريطانية للعفو عنه وخلال هذه المدة ـ مدة السجن ـ يسترجع الروائي على دفعات الحياة الحافلة بالإنجازات الإنسانية لهذه الشخصية الفذة المناهضة للاستعمار.رجل بانتظار الموت يسترجع حياته الماضية وهذا بناء روائي يذكرنا نوعاٍ ما برواية مائة عام من العزلة لغابرييل غارسيا ماركيز حيث تبدأ الرواية بالكولونيل أوريليانوبونديا الواقف أمام فرقة الإعدام الذي تلوح حياته أمامه كشريط سينمائي. وهذه الحيلة التقنية يستخدمها ماريو فارغاسيوسا لتمرير رواية ضخمة الحجم تزيد عن الخمسمائة صفحة ومما لاشك فيه أن يوسا قد حقق نجاحاٍ باهراٍ ونسج حبكته بمهارة فأنتج عملاٍ على قدر عالُ من التشويق والإثارة وهو يتوسع في استخدام هذه التقنية أكثر من ماركيز فلا يكتفي بالتركيز على خط سردي واحد (الفلاش باك) ولكنه يستخدم الخط السردي الراهن (انتظار الإعدام) في خلق حبكة متينة لا تقل جاذبية عن الحبكة الكبرى المستعادة من رحلاته في إفريقيا وأميركا الجنوبية. وفي الرواية التي بين أيدينا تنشأ الحبكة (ب) من قيام جهاز المخابرات البريطانية بنشر مذكرات جورج كيسمنت على الملأ تحت مسمى (اليوميات السوداء) وفيها يذكر يدون جورج كيسمنت دون تحفظ علاقاته الجنسية مع الشبان الأفارقة وولدين قاصرين.. وهو ما تسبب وقتها في إضعاف موقفه وفشل طلب الاسترحام الذي تقدم به. فيما يتعلق بالشخصيات يْقدم ماريو فارغاسيوساملاحظة على قدر من الأهمية عن الجلادين أي الأشخاص الساديين المولعين بالتعذيب وهو يلفت نظر القارئ أن جميع الأوروبيين الذين يمارسون التنكيل بالسكان الأصليين هم من قصار القامة. ويبدو من منظور الروائي أن هؤلاء القصار القامة يعانون من عقدة نقص فيعوضونها بعملقة أنفسهم بواسطة ممارسة العنف البالغ الذي يصل إلى حد الموت على الرجال والنساء. وتصح هذه الملاحظة أيضاٍ على بيئتنا العربية عندما نستذكر أشباهاٍ لهؤلاء الجلادين مروا بتاريخنا ويقف على رأسهم الحجاج بن يوسف الثقفي الذي أزهق أرواح أكثر من مائة ألف إنسان وهو الذي كان معروفاٍ بقصر قامته. بالنسبة لبطل الرواية (جورج كيسمنت) فإنه يبدو عدة رجال في شخص واحد فهو من أوائل الإنسانيين العظام المنددين بالاستعمار كما أنه مناضل قومي هائل التأثير أيقظ الروح القومية في نفوس الأيرلنديين وأشعرهم أنهم هم أيضاٍ مْستِعúمِرين من قبل الإنجليز مثلهم مثل السكان الأصليين في إفريقيا والأمازون وأنهم معرضون كشعب وحضارة وثقافة للانقراض والذوبان. والوجه الثالث لهذا الدبلوماسي الشهير هو حياته الشخصية وسلوكه الجنسي المثير للجدل. وحتى وقتنا الحاضر ما يزال السجال قائماٍ بين المؤرخين حول صدقية تلك الوثائق التي نشرتها المخابرات البريطانية. بالنسبة لمؤلف الرواية فإنه يحسم الأمر ويؤكد صحة تلك الوثائق في هذا المقطع: ” حسب رأي الطبيب الذي حضر الإعدام الدكتور بيرسيماندر فإن العملية نفذت دون أية عقبات وكان موت المحكوم عليه فورياٍ. وقبل أن يْعطي الإذن بدفنه قام التقني الطبي بتنفيذ أوامر السلطات البريطانية التي تريد بعض التأكيد العلمي بشأن الميول المنحرفة للمحكوم عليه فبادر وهو يضع قفازين بلاستيكيين إلى سبر فتحة الشرج وبداية المعي. تأكد من أن في الشرج بالرؤية المجردة توسعاٍ واضحاٍ مثلما هي حال الجزء السفلي من المعي إلى حيث يمكن أن تصل أصابع اليد. وينتهي الطبيب إلى القول إن هذا الاختبار يؤكد الممارسات التي كان المحكوم كما يبدو هدفاٍ لها”(ص 527).
وإذاٍ ينجح ماريو فارغاسيوسا في تصوير الوجوه الثلاثة لبطل الرواية ببراعة تامة ويْثبت أنه أستاذ عظيم في رسم الشخصية.
ركلة يوسا غير المرئية
في رواية “حلم السلتي” تتردد أصداء العداوة التاريخية بين عملاقي الأدب الروائي في أميركا الجنوبية والعالم بين ماريو بارغاسيوسا وزميله الأكثر شهرة غابرييل غارسيا ماركيز.. ويستغل يوسا هذه الرواية الجميلة حقاٍ ليوجه لكمة أخرى لرأس ماركيز تحت دخان أحداث روايته. ويقوم بنوع من الإسقاط حينما يورد موقف الروائي الشهير (جوزيف كونراد) الذي رفض التوقيع على عريضة الاسترحام الموجهة للحكومة البريطانية بشأن جورج كيسمنت: “يمكن للمرء أن يكون كاتباٍ كبيراٍ ومجرد رعديد في المسائل السياسية”(ص79). وهذا يذكرنا بموقف غابرييل غارسيا ماركيز الذي طالب بشطب اسمه من بيان يدين الرئيس فيديل كاسترو بسبب سجنه لأحد الشعراء الكوبيين. وهذا التراجع وقتها سبب حرجاٍ بالغاٍ ليوسا الذي صاغ البيان كما تسبب لاحقاٍ في مشاجرة نشبت بينهما وأصيب خلالها ماركيز بلكمة في وجهه وعلى ما يبدو فإنهما لم يتصالحا بعدها أبداٍ. يتحدث يوسا عن جوزيف كونراد في عدة مواضع من الرواية بينما يلوح ماركيز كشبح خلف شخصية الروائي البريطاني.. ويمكننا التخمين بأن (جوزيف كونراد) هو استعارة ذكية عن الأصل ماركيز: “ازداد سمنة واكتسب من عجرفة المثقفين في أسلوبه في التعبير”(ص 82). وفي موضع آخر يتكلم قائلاٍ عن زوجة كونراد: “هي امرأة من أصول متواضعة جداٍ”(ص83) وهذه على الأرجح إشارة خاطفة سرية إلى زوجة ماركيز “مرسيدس”!
لكن بعيداٍ عن هذا اللغز غير البريء الذي يجري تحت الطاولة يمكننا أن نشعر ونحن نقرأ الرواية بالجهد الهائل الذي بذله يوسا في تأليفها فمن المؤكد أنه قد قرأ أكواماٍ من الكتب والمذكرات والوثائق المتعلقة بالديبلوماسي جورج كيسمنت كما قام بزيارات ميدانية إلى أيرلندا وزار تمثاله المحطم في مرتفعات غلينشيسك لذا فإن فن الرواية بهذا المعنى يكتسب بعداٍ جديداٍ كل الجدة وهو البعد “البحثي”. هذا النوع من الروايات ليس نتاج الخيال المحض وإنما هو نتيجة الانكباب لسنوات والانهماك في العمل الشاقوالدراسة التفصيلية لموضوع الرواية وجمع المعلومات والاستعانة بمؤرخين خبراء لجمع المادة الخام التي سيجري استخدامها في كتابة الرواية. إنها رواية أقل (أدبية) ولكنها في المقابل تمتلك منهجاٍ يْجاري المنهج العلمي.. إنه عصر روائي جديد لا مجال فيه للروائيين الهواة ورواية “حلم السلتي” هي مؤشر على ازدهار الرواية الاحترافية القائمة على الأبحاث والدراسات المستفيضة.

قد يعجبك ايضا