يذهب البعض إلى المبالغة في خيار السلام الذي يتبناه الرئيس الأمريكي ترامب في المنطقة، وقد استبشر ذلك البعض بما تم الاتفاق عليه في شرم الشيخ المصرية بحضور زعماء من مختلف دول العالم، ويرون في ذلك نصرا كبيرا لفكرة السلام على فكرة الحرب والدمار، وقد بعث الواقع رموزه بما لا يدع مجالا للشك أن فكرة السلام في المنطقة ليست سوى خيار استراتيجي تكتيكي لها أهداف وغايات سوف تدل عليه الوقائع في قادم الأيام .
مفهوم السلام الذي يتحدثون عنه مفهوم عائم وغير واضح , ولذلك ستكون نتائجه عائمة وليست واضحة , ولن يتحقق السلام إلا وفق المصالح والاستراتيجيات المرسومة للمنطقة , فغزة سوف تفقد جزءا من جغرافيتها وهو الجزء الممتد من خان يونس إلى الحدود المصرية والمطل على البحر , وكانت الفكرة أن يتم تهجير السكان إلى سيناء والضفة الغربية بيد أن هذا الخيار اصطدم بمعوقات موضوعية حالت دون تحقيقه , ولذلك كان الخيار أن يبقى السكان في جزء من أراضي غزة , وبحيث يتم تصفية القطاع من كل حركات المقاومة أو تحييدها والحد من فاعليتها , وقد تم استحداث قوة موازية هي اليوم في طور التكوين، هذه القوة التي تعلن عن نفسها اليوم هي البديل الذي يتم إعداده ليبسط سيطرته على ما تبقى من القطاع وسيكون في مواجهة مباشرة مع حركات المقاومة , فالتنازع هو عنوان الفشل الذي تعول عليه القوى الدولية في بسط السيطرة وتحقيق الغايات والأهداف المرسومة من قبل في إطار فكرة تغيير الخارطة في المنطقة .
حركة التدمير للعمران والبنى التحتية وتعطيل الخدمات في قطاع غزة سوف يترك أثرا نفسيا على السكان مما يحدث حالة من الانقسام في الوحدة الوطنية الفلسطينية ويفقد المقاومة بكل فصائلها الحاضنة الاجتماعية , وسيكون الكيان الذي أعلن عن نفسه تحت مسمى القوة الضاربة لمكافحة الإرهاب هو الكيان البديل الذي سوف يلامس أحلام البسطاء الباحثين عن الاستقرار والحياة , وبه سوف تحارب إسرائيل المقاومة الإسلامية , ومن خلاله سوف يتم تأكيد فكرة التوحش وتهديد الحضارة المعاصرة مما يعمل على تغيير الصورة التي ارتسمت في الخيال العالمي وفي الرأي العام العالمي , خاصة بعد مسرحية اتفاق السلام في شرم الشيخ .
الصراع في قابل الأيام سيكون أكثر ضراوة وحدة بين الفصائل المقاومة الفلسطينية وبين القوى الناشئة في القطاع من حركات تحت مسميات مختلفة مثل الجيش الشعبي والقوة الضاربة وغيرها من القوى التي سوف تنشأ بدعم كبير من إسرائيل ومن أمريكا والدول الست .
كل الذي يحدث اليوم يبعث رموزه وإشاراته ويدل على المستقبل بكل وضوح , فراعي السلام ترامب يقول بكل صلف أنه إذا لم تنفذ حماس بنود الاتفاق فسوف تواجه عملا عسكريا أكثر توحشا مما حدث , وهذا التصريح لم يكن عفويا ولكنه يعرف الغايات من ورائه , والتي نرى أن أقلها هو دعم القوى الناشئة , وفصل الفصائل المقاومة للمشروع الصهيوني عن واقعها , وتصديرها للرأي العالم الدولي كقوى لا تحب السلام , وتهدد الحياة والحضارة المعاصرة , فالتصريح صاغه علماء في سيكولوجية الجماهير وعلماء علم الاجتماع السياسي , فالغرب يعرف كيف نفكر , ويعرف مدخلاتنا الثقافية , وقد أخضعنا للدراسة على مدى قرون من الزمن , ولذلك يدير معركته معنا بالمعرفة , وليس بالنصوص الثابتة , وسوف يصل إلى أهدافه بأقل التكاليف .
ما حدث في شرم الشيخ لن يكون سوى شرعنة لما سوف يحدث في قابل الأيام , أما خيار السلام وتحقيق القدر الكافي من الحقوق للشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال , فهذا أمر خارج اهتمامات المجتمع الدولي الذي لا يبحث إلا عن تحقيق القدر الكافي من توازن القوى , وبما يعزز فكرة إعادة رسم خارطة المنطقة العربية وفق ما تم التخطيط له مسبقا , وهذا أمر أصبح معلنا فهناك دول سوف تظهر ودول في الخارطة سوف تمحى , وهو تقسيم يقوم على أسس طائفية , وعرقية , وثقافية , وبحيث يحدث توازناً كافياً يلبي طموحات الصهيونية العالمية ويحقق في الوقت نفسه مصالح الرأسمالية الغربية , أما فلسطين وقطاع غزة بالتحديد فسوف يشهد صراعا بينيا ينذر بكارثة وينذر بالفشل .
اليوم الجيش الشعبي أو قوات الشمال تعلن المواجهة الصريحة مع حماس، ولا أظن أن التوقيت الذي أعلن فيه عن نفسه كان عبثا بل كان مدروسا بعناية فائقة , ولذلك فالمناورات والخروقات التي تقوم بها إسرائيل اليوم هي لتمكين هذا الكيان من القيام بمهامه في قابل الأيام , وسوف تحاول إسرائيل مراقبة الوضع وتساهم بين الفينة والأخرى بعمليات عسكرية خاطفة هدفها تعزيز وجود الجيش الشعبي في القطاع , ولعل الخلاف حول الأسماء المقترحة لإدارة القطاع هي المهاد الفعلي لهذا التمكين , وقد نشهد جدلا كبيرا حول هذا الملف , الذي يهدد بسقوط اتفاق السلام وقد تقبل حماس بالواقع بعد أن تصبح قوة منهكة وغير قادرة، وتواجه ضغوطا شعبية ودولية وأيضا إعلامية .
نحن اليوم أمام معركة وجود , وهذه المعركة تتطلب معرفة وقدرات ذهنية كبيرة لإدارتها ما لم فنحن أمة نذهب الى الفناء المؤجل بغير وعي ولا إدراك منها .
