العنف.. عادم الطفولة وهادم المجتمع

■ عثمان: العنف الأسري يهدد الأطفال بالانحراف والمجتمع بالتفكك والانفجار
■ ذيبان: الدين يوجب العطف.. وتعنيف الأطفال يغذي الجريمة والإرهاب

على قارعة الطريق من مدرسة النهضة في منطقة الجراف بالعاصمة صنعاء جثم محمود عبدالله على ركبتيه منكساٍ رأسه وسطهما وهو يجهش بالبكاء.. اقتربت منه ومسحت بيدي على رأسه فانتفض فزعاٍ وانتصب واقفاٍ وجسده النحيل يرتعد خوفاٍ وهلعاٍ.. هدأت من روعه وسألته: ما بك.. ما الذي يبكيك¿ عاود البكاء متمتماٍ أبي أخذ عليِ الشنطة وأنا ذاهب إلى المدرسة وضربني بالشنطة وزاد صفعني على وجهي لأني نسيت أقرب له القهوة والصبوح.
وجبات عنيفة
بدا (محمود) مقهوراٍ يود لو يلحق بأخيه محمد وينجو.. قال: منذ غادر أخي الكبير البيت قبل عامين هرباٍ من ضرب أمي المتواصل له ومنعه من المدرسة وأنا أحضر لأبي الصبوح والقهوة قبل ذهابي إلى المدرسة وخالتي تجهز له ولنا الغداء والعشاء ويوم يقول لي الصبوح قليل ويضربني ويوم الملح زيادة.. ويوم السكر ناقص.. ويرجع يضربني ويرمي أي شيء في يده عليِ.
قسوة العزاء
لا يدري (محمود) الذي لا يزال في الصف الرابع أساسي أي ذنب اقترفه ليستحق ما يلاقيه لكنه يعرف منذ متى بدأت معاناته واقترانها بفاجعته الأولى.. يقول: من يوم توفيت أمي قبل ثلاث سنوات وأبي يضربني بسبب وبدون سبب.. لا يتفاهم معي ومع أخي محمد بالكلام.. يعاملنا بالضرب والصراخ.. وخالتي التي تزوجها بعد شهر من وفاة أمي تزيد تحرضه علينا وتجلس نائمة حتى أذان الظهر.
قد يقتلني
ألمحت له بالمساعدة وبدأت أعرض استعدادي لمحادثة والده فقاطعني خائفاٍ: أرجوك لا يعرف والدي بما قلته لك لأنه إذا عرف سيقيدني في البيت ويمنعني من الدراسة ويمكن يقتلني.
عندها ودعت (محمود) وأنا أتحسر على وضعه الصعب الذي يعشيه وهو ما زال في سن الطفولة الذي حرمه والده حنانها وأمانها ولهوها ونصيبها من السعادة والبهجة والسكينة.
طفلات للقات
واصلت سيري وفي جولة سبأ بمنطقة الحصبة شاهدت نحو أربع طفلات يتسولن أصحاب السيارات والركاب والمارة استوقفت إحداهن وباشرت حديثها قائلة: لم يبق لي سوى ساعة للعودة إلى البيت.. لازم أعطيه حق القات وإلى الآن مابش معي غير خمسين ريالاٍ.. أعطني فلوساٍ أو اتركني (أطلب الله).. سألتها وزميلاتها هل تدرسن¿ وتبادلن النظر إلى بعضهْن وضحكن.. ثم عادت الطفلة سوزان كما اخبرتني لتجيب بثقة: أحنا نحب الدراسة ونتمنى أن ندرس مثل باقي البنات لكن أهلنا رفضوا يدرسونا لأننا نصرف عليهم.. وإذا جبنا لهم فلوس قليل يضربونا بالعصا و(الزبط والركل) ويمنعون عننا الأكل والشرب إلى اليوم الثاني.. يعني هم ما يحبونا ويحبوا الفلوس التي نحصل عليها من فاعلي الخير.
نماذج ليس إلا
محمود وسوزان مجرد نموذجين لآلاف إن لم يكن لمئات الآلاف من الأطفال في بلادنا الذين حرموا من حنان وعطف الأبوين ومن الدراسة في أوقات مبكرة جداٍ من أعمارهم ناهيك عن ما يلاقونه من ضرب في المنزل وإهانات في الشارع بسبب انعدام الرحمة لدى بعض الآباء والأمهات من ناحية وبسبب الفقر الشديد الذي تعاني منه بعض الأسر من ناحية أخرى.
ظاهرة تتفاقم
ذلك ما تؤكده وتعترف به كثير من الدراسات والتقارير المنشورة لمنظمات مدنية محلية ودولية وكذا جهات حكومية تتفق في ملاحظة تضاعف ظاهرة تشرد الأطفال في الشوارع خلال العشر السنوات الماضية مرجعة الأسباب إلى تنامي مشكلة التفكك الأسري في عموم محافظات الجمهورية جراء تزايد حالات الطلاق وتعدد الزوجات أو غياب العائل اغتراباٍ أو إعاقة أو وفاة.
لكن المتخصصين والباحثين يتفقون في أن الفقر يتصدر أسباب تنامي مشكلة التفكك الأسري بجانب غياب التوعية والإرشاد الأسري والتربوي في المساجد ووسائل الإعلام بالإضافة إلى ضعف الوازع الديني لدى بعض المواطنين.
تعاون مجتمعي
لذلك يرى السفياني أن تشرد وضياع الأطفال أصبح ظاهرة مستفحلة في سائر محافظات الجمهورية وهذه الظاهرة تحتاج من الجميع حكومة وتجاراٍ وسياسيين وعلماء ومثقفين وتربويين وغيرهم من شرائح المجتمع وقفة مسؤولة وجادة للحد منها لأن هذه الظاهرة أصبحت تشكل خطراٍ كبيراٍ على مستقبل أبنائنا وبناتنا خاصة الأطفال وتهدد البلد بالدخول في معترك صعب مع الأمية وما يترتب عليها من فوضى وعشوائية وثارات وعصبية قلبية ومذهبية وقد قال أحد الشعراء (العلم يبني بيوتٍا لا أساس لها والجهل يهدم بيوت العز والكرم).
البيئة وظروفها سبب
من جهته يرجع الاخصائي الاجتماعي منصور عثمان أسباب ظاهرة تعنيف الوالدين للأبناء وآثار هذه الظاهرة إلى الضغوطات النفسية والاحباطات وصعوبات المعيشة التي يلاقيها الأبوان في الحياة اليومية.
يقول عثمان: الصعوبات المعيشية والضغوط النفسية تلعب دوراٍ في جعل الأبوين يمارسان العنف وهناك أسباب أخرى للعنف الممارس من الوالدين بحق أولادهم منها تعاطي الكحول وغيرها من المخدرات وإصابة بعض الآباء بأمراض نفسية ما يجعل سلوكهم عدوانياٍ.
ويضيف عثمان: بالإضافة إلى البيئة والمحيط الاجتماعي اللذين يلعبان دوراٍ كبيراٍ في خلق حالات من العنف ضد الأطفال خاصة في المناطق الريفية التي ترتفع فيها حالات ممارسات العنف والقسوة في تربية الأبناء الذين يكررون الأمر بدروهم عند وما يصبحون آباء فيكون تعاملهم مع أبنائهم بنفس التعامل الذي كان آبائهم يتعاملون به معهم أي أن هذا النوع من التعامل بين الآباء والأبناء مرهون بعاملي البيئة والتنشئة الاجتماعية اللذين يتحكمان في أفعالهم وتصرفاتهم.
آثار وخيمة
وبالانتقال إلى آثار العنف الأسري يقول الاخصائي الاجتماعي منصور عثمان: إن عنف الآباء بحق أبنائهم له آثار سلبية كبيرة على حياة الأبناء والمجتمع إجمالاٍ منهما على سبيل المثال إصابة الطفل بعقدة نفسية وانحراف في سلوكه ما يجعله عرضة للاستقطاب السريع والسهل من عصابات التقطع والسرقات والجماعات المتطرفة والإرهابية.
أكثر من ذلك تبعات وآثار العنف الأسري على المجتمع التي يعدها عثمان الأخطر ويقول: أضف إلى ذلك الآثار المترتبة على العنف في حياة الأسر والمجتمع منها نشوء حالات اللااستقرار الأسري والاجتماعي والقضاء على التكافل الاجتماعي وعلى روح الألفة بين أفراد الأسر بشكل خاص وأفراد المجتمع بشكل عام ناهيك عن التفكك الأسري وفقدان الثقة والأمان بين الأبناء والوالدين وتبعاٍ التفكك المجتمعي.
دعوة إلى الحل
ما سلف يوجب بنظر خبراء علم الاجتماع والباحثين إلى إعطاء الظاهرة أولوية الاهتمام العام لحل أسبابها وفي هذا يقول منصور عثمان: أدعو الآباء والأمهات إلى تجنب ضرب أبنائهم واستبدال ذلك بالتفاهم ومحاولة الرفق في التعامل مع الأبناء لأن العنف له آثاره المدمرة للأبناء وهو ما يستلزم تغيير الآباء لأنماط سلوكهم وتصرفاتهم التي تقوم على العنف في معاملة أبنائهم حتى يشعر الأبناء بالتسامح والأمان وحنان الوالدين يستدرك عثمان حديثه وينوه بدور هام للحكومة حيال هذه القضية الظاهرة قائلاٍ: الدولة لها دور كبير في معالجة هذه الظاهرة من خلال توفير فرص عمل للآباء العاطلين وكذا القيام بعمل العديد من الفعاليات والندوات لتوعية المجتمع من أخطار العنف الأسري وتعنيف الوالدين لأبنائهم.
الدين المعاملة
في المقابل تبرز مسؤولية يتحملها رجال الدين من الدعاة والوعاظ والمرشدين ذلك ما يؤكده الشيخ علي عبدالله ذيبان: ينبغي على الجميع أن يقتدوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم خير من أوضح لنا كيف نعامل أبناءنا وبناتنا وغيرهم ممن نعيلهم عندما قال عليه وآله الصلاة والسلام: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته..) فالأنباء هم فلذات الأكباد ويتساءل ذيبان لماذا يسعى بعض الآباء إلى تدمير هذه الفلذات عن طريق ممارسة الضرب وشتى أنواع العنف¿!! ويقول: الدين المعاملة وكذلك هي تربية الأبناء تعتمد على المعاملة والنصح وعلى تقديم السلوك الحسن أمامهم من الآباء فهم القدوة لهم والرسول صلى الله عليه وآله وسلم ترك لنا سيرة عطرة تهذب النفوس وتهدي الضالين والعصاة.
يعود ذيبان ليؤكد تضمن ديننا حلولاٍ ناجعة يقول: علينا أن نقتدي به ليقتدي أبناؤنا بنا وننقل صورة إيجابية عن ديننا وعن رسولنا الأعظم الذي أرسله الله رحمة للعالمين أطفالاٍ وشباباٍ وشيوخاٍ ونساءٍ لأصحاب الأديان والمعتقدات الأخرى خاصة في وقتنا الراهن الذي يشوه فيه ديننا الإسلامي الحنيف من بعض أبناء جلدتنا الذين سلكوا الطريق الخطأ في تعاملهم مع مجتمعاتهم الإسلامية ومع بقية المجتمعات والأمم تحت رايات تحمل في طياتها مفردات إسلامية ولكن دون العمل بأدنى ما تعنيه تلك المفردات وإنما العمل وفقاٍ لمنهج الشيطان الرجيم الذي يعادي بني البشر ويسوقهم إلى جهنم.
من هنا يؤكد الشيخ علي ذيبان التمسك بأخلاق الإسلام ونهجه في التنشئة الأُسرية والمجتمعية يقول: السلم كما علمنا نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو (من سلم المسلمون من لسانه ويده) وهو الذي لا يقطع شجرة ولا يرعب طفلاٍ ولا شيخاٍ حتى وهو يخوض المعركة مع أعدائه فكيف بهؤلاء الذين يعنفون أطفالهم في تغذية المجتمع بمنحرفين ومتطرفين يقدرون بالناس ويفجروهم وهم نائمون أو وهم في صلواتهم خاشعون أو في أسواقهم يتبضعون أو في مزارعهم يحرثون ويزرعون ويحصدون.. ويقطعون رؤوس أسراهم ويدمرون المدن والمساكن على رؤوس ساكنيها فكيف بهؤلاء الإرهابيين أن يجرأون على القول بأن ما يقومون به جهاد والجهاد أسمى وأعلى وأرفع من كل أعمالهم وممارساتهم وسلوكياتهم الشيطانية.
قسوة الواقع
على الطرف الآخر يؤكد أحد الآباء وهو الحاج أحمد السفياني (والد ابنين وبنت) أن قسوة الواقع تسهم في نزع الرحمة من قلوب بعض الآباء والأمهات ويقول: هناك آباء وأمهات منزوعو الرحمة بفعل قسوة نشأتهم وواقعهم وخير دليل الأطفال المنتشرين في الأسواق والشوارع ليل نهار إما للتسول أو مزاولة مهنة بيع الماء والمناديل والصورة غيرها من السلع في جولات الطرقات أو مزاولة أعمال أخرى شاقة وخطرة دون أن يسأل عنهم أحد من أقاربهم.

قد يعجبك ايضا