أي تحديات تنتظر المرحلة الثانية من خطة إنهاء حرب غزة ؟
نجاحات المرحلة الأولى تصطدم بعقبات التفكيك والتدويل
حتى اليوم أظهرت التفاعلات على الأرض نجاحا كبيرا في تنفيذ بنود المرحلة الأولى من خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لوقف الحرب في غزة، بوقف الحرب وسحب قوات الاحتلال إلى ما وراء الخط الأصفر، بالتوازي مع عودة النازحين ودخول المساعدات الإغاثية، وإطلاق سراح الأسرى والرهائن، غير أن المخاوف تكتنف كثيرين من تحديات كبيرة تواجه تنفيذ استحقاقات المرحلة الثانية تهدد بانهيار الخطة في أي لحظة وتعزز احتمالات العودة إلى الحرب.
تحليل / أبو بكر عبدالله
لم يكن وقف إطلاق النار في غزة هذه المرة مبنيا على اتفاق موقع بين الكيان الإسرائيلي وحركة المقاومة الإسلامية «حماس» بل خطة بناها الرئيس ترامب على مقترح بريطاني لم يبتعد كثيرا عن الخطة العربية الفرنسية المعلنة سابقا، وسرعان ما تحولت إلى اتفاق دولي غير موقع من طرفي الصراع في ظل زخم الاعتراف بالدولة الفلسطينية وتأييد عالمي غير مسبوق لحل الدولتين مقابل غزلة دولية غير مسبوقة على الكيان الإسرائيلي.
مع ذلك كانت نتائج المرحلة الأولى للخطة التي جاءت في 20 بندا مشجعة وموضع ترحيب عالمي، خصوصا وأنها أوقفت 733 يوما من الفظائع وحرب الإبادة والدمار الشامل وأسست لقواعد سريعة لفض الاشتباك بانسحاب قوات الاحتلال في المرحلة الأولى من 47% من أراضي القطاع، ناهيك بحسمها الفوري لقضية تحرير الرهائن وفتح الأبواب المسدودة أمام قوافل المساعدات الإنسانية بإشراف وكالات الأمم المتحدة والهلال الأحمر.
وبنود الالتزامات الفورية كانت من أكثر محاور الخطة أهمية ولا سيما من جانب حكومة الكيان التي التزمت بوقف النار بشكل نهائي والانسحاب الجزئي إلى ما وراء الخط الأصفر، وتبادل الأسرى، وعدم العودة إلى احتلال غزة أو ضمها، وتسليم ما تم احتلاله خلال الحرب الأخيرة تدريجيا وتسليمها لقوة الاستقرار الدولية، ناهيك بتعليق كل اشكال التجسس والمراقبة الجوية في المناطق التي تم الانسحاب منها وحصر عملياته في المناطق الواقعة وراء الخط الأصفر.
الالتزامات امتدت كذلك إلى حركة «حماس» التي تعهدت وقف إطلاق النار والشروع بإجراءات إطلاق سراح الرهائن، فيما لا تزال تعهداتها بشأن نزع السلاح ومغادرة حكم غزة ضبابية جراء تصريحات قيادات الحركة التي ربطت قضية نزع السلاح في سياق دولة فلسطينية.
وفقا لذلك كانت أكثر الإجراءات المنفذة في إطار المرحلة الأولى موضع ترحيب فلسطيني وعربي ودولي غير مسبوق، خصوصا وهي أنهت واحدا من أكثر حروب الإبادة وحشية في تاريخ الشرق الأوسط ومثلت إنجازا كبيرا للجهود الدبلوماسية التي تعثرت لنحو عامين من المفاوضات.
زاد من ذلك الالتفاف الدولي واسع النطاق حول الخطة والتي تحولت تاليا إلى اتفاق تضمنه أكثر من 20 دولة عربية وأجنبية بعد التوقيع عليها جماعيا في قمة شرم الشيخ الإثنين الماضي.
عوامل مؤثرة
المؤكد أن الموافقة على الخطة الدولية لوقف الحرب في غزة، لم تكن نتيجة لتحركات أمريكية وحسب، إذ إن خطة ترامب استندت على مقترحات الوساطة العربية ومقترحات خطة الوساطة السعودية الفرنسية وتشكلت في صيغتها النهائية من 20 بندا استنادا على المبادرة التي صاغها رئيس الوزراء البريطاني الأسبق طوني بلير.
والتزام الدولة العبرية بالخطة كان وثيق الصلة بعوامل داخلية وخارجية دفعت رئيس حكومة الكيان بنيامين نتنياهو إقناع حكومته المتطرفة المصادقة على الخطة خلال ساعات قليلة، بعد ان خضعت في الأشهر الأخيرة لضغوط دولية كبيرة بما في ذلك حلفاؤها الأمريكيين والأوروبيين، ناهيك بما خضعت له من عزلة دولية وصلت إلى مستويات غير مسبوقة في تاريخ الكيان العبري.
غير بعيد عن ذلك الضغوط التي تعرضت لها حكومة نتنياهو بعد الهجوم الإسرائيلي على الدوحة والذي اثار حالة غضب واسعة في المنطقة العربية وبداخل الإدارة الأمريكية التي استغلت تداعياته الدراماتيكية في تحشيد الضغط الدولي على حكومة نتنياهو لتقديم تنازلات تعيد دولة الكيان إلى المشهد الدولي.
حتى نتنياهو الذي قاد حرب الإبادة في غزة لعامين وجد نفسه وحيدا في مواجهة العالم المناهض لحربه الإجرامية في غزة وكان المشهد في الأمم المتحدة بعد انسحاب عدد كبير من ممثلي الوفود الدولية أثناء القاء كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، جامعا لكل التفاصيل المبعثرة وقدم رسالة قوية بتحول إسرائيل إلى كيان منبوذ على المستوى العالمي.
ومن جانب حركة «حماس» كان ثمة عوامل داخلية وخارجية أيضا دفعت بها إلى الاستجابة للخطة ولا سيما في الضغوط العربية والإقليمية التي مورست عليها في الأسابيع الأخيرة وتزامنت مع ضمانات إقليمية ودولية، دعتها للقبول بالخطة، رغم نصها الواضح على البنود التي طالما رفضتها والخاصة بتفكيك حركة «حماس» وأسلحتها وعدم وجود ضمانات واضحة من جانب الكيان بأنهاء الحرب والانسحاب من أراضي القطاع.
وكان واضحا من تصريحات قيادات الحركة أن الضمانات التي قدمها الرئيس ترامب عبر الوسطاء بعدم استئناف إسرائيل الحرب بعد إطلاق سراح الأسرى، عاملا حاسما في إعلانها الموافقة على الخطة والانخراط بإجراءات عملية لتنفيذها وفق المخطط الزمني المقترح، وهو ما تكلل بصريحات الرئيس ترامب أثناء زيارته الأخيرة للشرق الأوسط وإعلانه أن حرب غزة انتهت.
تعقيدات ومفاجآت
رغم الانسيابية التي تمت بها خطوات المرحلة الأولى من الخطة إلا أن التقديرات تبدو متشائمة حيال استحقاقات المرحلة الثانية والتي تحمل قضايا ذات حساسية كبيرة بدءا من قضية الإدارة الدولية للقطاع وصولا إلى القضايا الجوهرية الأكثر تعقيدا وخصوصا تفكيك «حماس» ونزع سلاحها وابعادها كليا من معادلة الحكم في قطاع غزة.
تفاعلات ذلك خرجت إلى العلن مبكرا بإعلان قادة في « حماس» رفض الحركة القاطع لنزع سلاحها وإبعاد قادتها دون وجود إطار للدولة الفلسطينية، في مقابل موقف متصلب من الكيان الذي يراها خطوة جوهرية لا نقاش حولها وشروعه بوضع خطط تنفيذية لتفكيك حماس» وتجريدها من السلاح تحت إشراف الإدارة الفلسطينية العربية الجديدة لقطاع غزة وهيئة السلام الدولية المكلفة الإشراف على تنفيذ كل مراحل الخطة.
والمؤكد أن حكومة الكيان ستبدي تمسكا بهذا البند الذي يعد مقدما على ما سواه لدى حكومة اليمين المتطرف الإسرائيلية والتي استبقت المصادقة على الخطة بالإعلان أن لديها خطة بديلة من ثلاث مراحل تشمل تقسيم غزة إلى مناطق مغلقة عسكريا وتحريك عجلة ما سمته الهجرة الطوعية للفلسطينيين مع تنفيذ حملة اغتيالات واسعة لقادة «حماس» وهي الخطة التي لا شك ستقود إلى انهيار الاتفاق وعودة الحرب.
واللافت أن ترتيبات الخطة البديلة لم تكن إسرائيلية وحسب بل شاركتها فيها أطراف دولية علنا في الاجتماعات التي عقدتها حكومة الكيان بحضور عسكريين أمريكيين والمبعوث الخاص للرئيس الأمريكي ستيف ويتكوف، والمستشار الرئاسي السابق جاريد كوشنر، وكلها دارت حول نزع السلاح من قطاع غزة وتفكيك «حماس».
وإعلان السفير الأمريكي لدى إسرائيل مايك هوكابي رجح حصول جيش الاحتلال على ضوء اخضر أمريكي في هذا المنحى إذ أكد أن «حماس» لن يكون لها مستقبل في غزة .
ومن خلال بنود الخطة يمكن استنتاج معطيات ترجح هذا التوجه لدى حكومة الكيان يتصدرها عدم وضوح الرؤية حول بند الإدارة الدولية لقطاع غزة وحجم المشاركة الفلسطينية والتي تتقاطع كليا مع إعلان «حماس» رفضها إخضاع القطاع للوصاية الدولية.
يزيد من ذلك عدم احتواء الخطة على التزامات واضحة تجاه قيام الدولة الفلسطينية كاملة السيادة وفقا لحل الدولتين والغموض الذي لا يزال يكتنف الانسحاب الإسرائيلي الكامل ورفض حكومة الكيان أي مشاركة سياسية وأو أمنية لـ «حماس» في غزة، بل ورفضها بالكامل قيام دولة فلسطينية مستقبلا.
والمخاوف تأتي من كون الدافع لتنفيذ الخطة الأمريكية لم يقم على أسس تضمن تنفيذه وصموده أمام التحديات وتحفظ لكل طرف البقاء في معادلة ترتيبات اليوم التالي، بل استند على حالة الإجهاد والاستنزاف لدى الطرفين سياسيا وعسكريا، وحالة الغضب الدولي المتعاظم تجاه حرب الإبادة الإسرائيلية في غزة، وهي المعطيات التي استثمرها الرئيس ترامب لصناعة انتصار في ملف السلام يؤهله للحصول على جائزة نوبل على خطى سلفه الديموقراطي باراك أوباما.
طبقا لذلك جاءت خطة ترامب بحزمة من البنود السياسية والأمنية والإنسانية، التي استهدفت في المقام الأول «إنهاء الحرب، وتثبيت هدنة دائمة وفتح الطرق لتدفق المساعدات الإنسانية وتهيئة الظروف لإعادة إعمار القطاع وعودة المدنيين إلى قراهم ومدنهم وحشد المجتمع الدولي لإعادة الاعمار دون أي التزامات واضحة تجاه قيام الدولة الفلسطينية ذات السيادة.
خطوط متعرجة
معلوم أن بنود المرحلة الثانية من الخطة شملت ترتيبات سياسية وأمنية وضعت إدارة قطاع غزة تحت حكم انتقالي مؤقت من قبل لجنة فلسطينية تكنوقراطية غير سياسية، تتولى تقديم الخدمات اليومية للسكان، وتتكون من فلسطينيين مؤهلين وخبراء دوليين، تحت إشراف هيئة انتقالية دولية جديدة تُسمى «مجلس السلام»، برئاسة دونالد ترامب.
توازى ذلك مع ترتيبات بتفكيك حماس» وسلاحها وعدم منحها أو أيا من فصائل المقاومة الأخرى أي دور في حكم غزة، بشكل مباشر أو غير مباشر، مع تفكيك جميع البنى التحتية العسكرية، بما في ذلك الأنفاق ومنشآت إنتاج الأسلحة تحت إشراف مراقبين دوليين مستقلين.
وهذه البنود وضعت لتمهد الطريق لترتيبات أمنية تتحول معها غزة إلى منطقة منزوعة السلاح « ولا تشكل تهديداً لجيرانها، وفق تعبير الخطة، مع منح عفو لعناصر «حماس» الذين يسلمون أسلحتهم ويقبلون بـ «العيش السلمي»، والسماح لمن يُفضل مغادرة القطاع، بـ «الخروج الآمن» إلى الوجهة التي تقبل استقباله.
لكن المشكلة على الأرض هو عدم وجود أفق للمضي قدما بهذه الترتيبات بصورة كاملة، فحماس لم تكف عن تأكيد قبولها بنزع سلاحها تحت إدارة فلسطينية لقطاع غزة ورفض الوصاية الدولية ورفض تهجير عناصرها بل أن بعض قادة «حماس» الداخل أعلنوا بوضوح رفضهم القاطع تسليم الأسلحة بما في ذلك الأفكار المطروحة التي اقترحت تسليم الأسلحة الخفيفة لسلطة الوطنية الفلسطينية.
ذلك أن سياسة التفكيك الباردة لن تقتصر على بنية «حماس» وسلاحها، فالخطة تتحدث عن كل فصائل المقاومة بهدف بناء غزة جديد قادرة على التعايش السلمي مع جيرانها، وتوجيه جهود الشركاء الإقليميين لضمان وفاء فصائل المقاومة جميعا بألا تُشكّل غزة الجديدة أي تهديد.
وعلى أن بنود الخطة تحدثت ضمنيا عن إطار تفاوضي لهذه الخطوات وغيرها غلا أن القلق منها يأتي يكونها من وجهة النظر الإسرائيلية أساسية في استحقاقات المرحلة الثانية، وسط تعقيدات مرجحة قد تكون كافية لبناء ذرائع من جانب الكيان الإسرائيلي لاستئناف الحرب وإعادة احتلال غزة.
في الحد الأدنى، قد تجعل حكومة الكيان أي تعثر في تنفيذ هذه البنود ذريعة لوقف أي ترتيبات تالية بما في ذلك بنود إعادة الاعمار وتوفير الخدمات الأساسية وبناء الاقتصاد، والإبقاء على غزة منطقة غير قابلة للحياة وطاردة للسكان، بما يحقق أهدافها في التهجير الطوعي لسكان غزة.
وبالمثل سيكون من العسير تنفيذ الترتيبات التي وضعتها الخطة للأمن في غزة كونها منحت الولايات المتحدة مع «شركاء عرب ودوليين صلاحيات تشكيل قوة دولية في غزة لإرساء الاستقرار وتدريب ودعم «قوات شرطة فلسطينية متوافق عليها بالتشاور مع الأردن ومصر، في صيغة تتعارض مع مطالب «حماس» المشاركة مع السلطة الفلسطينية بترتيبات الأمن والمساهمة في استقرار مدن القطاع.
احتمالات مفتوحة
لا خلاف على أن الخطة الحالية مثلت أفضل فرصة لأنهاء الحرب في قطاع غزة وتجاوز آثارها الإنسانية المريعة ووضعت حدا لأكثر صور المعاناة الإنسانية التي تعرض لها الشعب الفلسطيني في تاريخه الحديث، غير أن الجزء الأصعب من الخطة لا يزال في بدايته كما أن الطريق لتسوية نهائية عادلة وشاملة لا يزال طويلا في ظل الترتيبات المعقدة التي وضعتها الخطة والتي تحمل في جنباتها الكثير من الألغام.
يشار في ذلك إلى الطبيعة المطاطية لبنود الخطة وما يكتنف بعض اجزاءها من غموض في خطة الانسحاب المجدولة وبما يمنحه لحكومة الكيان مساحة للمناورة واختلاق الذرائع وبما إطالة أمد المفاوضات تجاه الاستحقاقات الرئيسية للمرحلة الثانية ما يهدد بنسفها بالكامل والعودة بالجميع إلى المربع الأول.
وعلى أن تنفيذ استحقاقات المرحلة الأولى من الخطة كان حتى الآن مثاليا ومثير للتفاؤل والدهشة، إلا أن قضايا المستقبل السياسي لغزة ونزع السلاح لا تزال يمثل تحديا كبيرا يمكن الركون عليه لقياس مدى نجاح الخطة في تحقيق سلام دائم أو فشلها من الخطوات التالية.
مع ذلك فإن خطة ترامب التي تحولت إلى اتفاق دولي بعد قمة شرم الشيخ، أفلحت في تحقيق توازن قاد إلى وقف إطلاق النار وعودة النازحين وتبادل الأسرى والرهائن وخطوط المساعدات الإنسانية، وفتحت الباب لمفاوضات نهاية دائمة للحرب غير أن ما يثير الشك حولها أنها أبقت العديد من القضايا الشائكة والمعقدة على شاكلة الانسحاب وتفكيك «حماس» والإدارة المستقبلية للقطاع مفتوحة على كل الاحتمالات.