الثورة / متابعات
بعد عامين من ليلٍ ثقيل لم يُطفأ فيه القصف إلا لينفجر من جديد، بدأ الغزيون يومهم مختلفًا، لم يكن الخبر عاديًا، ولا الصمت الذي تبعَه طبيعيًا، فبين أزقة المخيمات وركام البيوت، تسرّبت أولى نسمات الهدوء عقب إعلان اتفاق وقف الحرب، لتوقظ في النفوس ما تبقّى من حلم بالحياة.
في مخيم البريج، يجلس الحاج سالم النباهين أمام خيمته الممزقة، يتأمل السماء وكأنه يختبر صِدق الهدوء.
يقول مبتسمًا ببطء: “منذ عامين لم أنم من دون أن أسمع دويًّا يهز الأرض، اليوم خف القصف كثيرا”.
خلفه أطفال يركضون بخجل، يختبرون مساحة اللعب التي صارت ممنوعة طوال عامين من النزوح والخوف.
مشاهد تفرح قلب كل مسلم لانسحاب الجيش الاسرائيلي من قلب غزة قبل قليل ❤️
اللهم اجعله انسحاباً لا عودة بعده، واحفظ أهل غزة بحفظك !
الناس في غزة لا يصدقون بسهولة، لكنهم يتشبثون بأي خيط ضوء، فالاتفاق، الذي وُقّع بوساطة قطرية ومصرية وأمريكية، نصّ على وقف شامل للعمليات العسكرية وانسحابٍ تدريجي لقوات الاحتلال من بعض مناطق القطاع، وفتح المعابر أمام المساعدات الإنسانية، غير أن ما ينتظره الناس ليس النصوص، بل التطبيق الذي يعيد إليهم ماءهم وغذاءهم وكرامتهم.
في مدينة دير البلح، تجلس آمنة مطر، وهي أم لخمسة أطفال فقدت منزلها في قصف منتصف 2024، تقول وهي تنظر إلى صور منزلها المحترق على هاتفها القديم: “أريد أن أرى أولادي ينامون في غرفة حقيقية. لم أعد أطلب سوى بابٍ يُغلق علينا ونافذة يدخل منها الضوء”.
تضيف بنبرة حذرة: “سمعنا عن اتفاقات كثيرة، لكن هذه المرة… نريد أن نعيش، لا أن ننجو فقط”.
ويمّم عشرات الآلاف وجوهم نحو غزة في العودة الثانية مكبرين مهللين.
العودة الثانية الكبرى خلال عامين
عودة مئات الآلاف من النازحين إلى شمال قطاع غزة من جنوبه، بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي ودخول الاتفاق حيّز التنفيذ.
إن شاء الله تكون هذه العودة الأخيرة لهم، ولا نزوح بعدها .
طوال عامين من الحرب، تهدّمت أكثر من 80 % من البنية التحتية المدنية في القطاع، وتوقّف معظم المستشفيات عن العمل، فيما نزح أكثر من مليون وسبعمئة ألف إنسان داخل مساحة صغيرة محاصرة، هذه الأرقام لا تعني شيئًا لمن فقد كل شيء؛ لكنها تعني للعالم أن ما جرى فاق حدود الكارثة.
في أحد المراكز الطبية المؤقتة في مواصي خان يونس، يجلس الطبيب الشاب إبراهيم الكرد أمام قائمة طويلة من أسماء المرضى الذين ينتظرون تحويلات علاج إلى الخارج.
يقول: “لدينا آلاف الحالات المزمنة، من السرطان إلى أمراض القلب. كل ما نحتاجه أن يُفتح المعبر، أن يسمحوا لهؤلاء بالعبور إلى الحياة”.
يبتسم بمرارة ويضيف: “اتفاق وقف الحرب لا يوقف الألم، لكنه يمنحنا فرصة لمعالجته”.
في شوارع غزة، ارتفعت أصوات الزغاريد للمرة الأولى منذ عامين، الأحياء المهدّمة امتلأت بأغانٍ قديمة تُبثّ من مكبرات صغيرة بين الركام، كأن الناس يريدون أن يثبتوا لأنفسهم أنهم ما زالوا أحياء.
حرب غزة لم تكن مجرد معركة عسكرية، بل كانت امتحانًا أخلاقيًا كشف زيف العالم ،وعزلت إسرائيل عالمياً.
وسط ذلك المشهد، كانت الطفلة لُجين سليم تمسك دفترًا مدرسياً رمادي اللون وتقول بفخر: “سأعود أكتب واجباتي هنا، على الأرض لو اضطررت، بس المهم ندرس”.
الفرحة لا تخلو من الخوف، فبيان الجيش الإسرائيلي الذي حذّر السكان من العودة إلى شمال القطاع أعاد إلى الذاكرة أن الحرب لم تبتعد كليًا، وأن الخطوط الفاصلة بين الأمل والخذلان لا تزال رقيقة. ومع ذلك، يتحدّث الناس عن الغد كما لو كان ممكنًا.
لحظات تاريخية مع بدء سريان وقف إطلاق النار في غزة، وعودة النازحين قسرًا من جنوب القطاع إلى ديارهم .
على بعد خطوات من شارع صلاح الدين، ينهمك متطوعون في رفع الركام عن مدرسة مهدّمة، أحدهم، الشاب نادر خميس، يقول وهو يزيل حجراً من أمام بوابة حديدية مدمرة: “لو لم نبدأ نحن بإعادة الحياة، فلن يفعلها أحد عنّا”.
يرفع رأسه نحو السماء الزرقاء التي لم يرها منذ أشهر ويضيف: “هذه ليست نهاية الحرب، لكنها بداية نفس جديد”.
أعانكم الله يا أهل غزة
هكذا يطمئن الناس على بيوتهم عبر من بقى
بعد انسحاب الاحتلال
أغلب الناس يسمعون اجابة
«بيتك نازل، الله يعوضك»
المدينة المنهكة، التي تحوّلت خلال عامين إلى مشهد من الخراب، تتعلم اليوم المشي مجددًا على أطرافها. بين الخيام والأسلاك والطرقات المهدّمة، يخرج الغزيون حاملين سؤالاً واحدًا: هل يمكن للحياة أن تُبنى من تحت الرماد؟
وربما، كما قال أحدهم، لا يحتاج الجواب إلى كلمات كثيرة، يكفي أن ترى طفلاً يضحك للمرة الأولى منذ عامين لتدرك أن الهدنة — ولو كانت مؤقتة — قد منحت غزة ما حُرمت منه طويلًا: حقّها في أن تتنفس.