بما أن شعوب العالم كلها مجمعة على معاداة الكيان الصهيوني، فإن عملاء “إسرائيل” مضطرون لتغيير ثوبهم حسب الوطن والشعب الذي يعملون من داخله، فإذا كان أعداء الكيان هناك يرفعون راية الدين، فإنهم يرفعون شعار الوطنية، والعكس صحيح. فهم مرنون جداً بما يتناسب مع وضعية الكيان وحسب ما تقتضيه مصالحه.
ففي لبنان، حيث يتقدم أعداء “إسرائيل” بخطابٍ ديني معلن ويجاهرون بأن مقاومتهم للعدو تنطلق من عقيدة إيمانية، لم يجد العملاء وسيلة للطعن في هذه المقاومة إلا برفع شعار “الوطنية”. فبدأوا يروّجون بأن ما يقوم به المقاومون ليس دفاعاً عن لبنان وشعبه، بل محاولة لجرّ الوطن إلى صراعات خارجية وجعله جزءاً من “إمبراطورية دينية” تتجاوز حدوده. وحاولوا إقناع الناس بأن مواجهة الكيان الصهيوني ليست سوى مشروع مذهبي لا علاقة له بالمصلحة الوطنية، وأن كل تضحيات المقاومين ليست أكثر من خدمة لمشاريع عابرة للحدود. وتحت هذه اليافطة انضوى كل عميل وخائن، من يساريين وليبراليين وقوميين سابقين، لا يجمعهم رابط فكري أو سياسي، سوى الولاء للعدو والخضوع لإملاءاته، والاتفاق على هدف واحد: تشويه صورة المقاومة الإسلامية وعزلها عن بيئتها.
وفي الجارة سوريا، برز التناقض الأكبر، إذ أن النظام هناك كان يقوم على أساس قومي، ويرفع شعارات واضحة في العداء للكيان الصهيوني، كما قدّم دعماً سياسياً وعسكرياً للمقاومة في فلسطين ولبنان. ولأن شعار الوطنية لم يكن يخدم عملاء الصهيونية في تلك المرحلة، فقد لجأوا إلى رفع راية الدين، فاستقطبوا تحتها كل متطرف وجاهل، ليقاتلوا النظام تحت ذريعة “الجهاد” و”نصرة الإسلام”، بينما كانت نتائج أفعالهم تصب مباشرة في مصلحة الكيان. ولم يكن الهدف الحقيقي سوى إضعاف الدولة السورية وإسقاط النظام القومي الذي شكل سنداً للمقاومة.
لكن ما إن ضعفت بنية الدولة وظهرت فرص السيطرة، حتى انقلب هؤلاء العملاء إلى شعارات الوطنية، ليبرروا من خلالها تنصلهم عن فلسطين وانكفاؤهم داخل الحدود السورية، وليصوروا كل دعوة لمواجهة العدو بأنها تهديد “لمصالح الوطن”. وهكذا تحوّل الخطاب من “الجهاد في سبيل الله” إلى “الحفاظ على الدولة”، ومن معاداة “إسرائيل” قولاً إلى السكوت عن جرائمها عملاً، وصار التذرع بخدمة الوطن غطاءً مكشوفاً للتطبيع مع العدو، والتخلي عن القضية المركزية للأمة، وجعلوا من ذلك وسيلة للسكوت على تجاوزات العدو الصهيوني حتى بحق سوريا وشعبها.
أما اليمن، فتكرر المشهد نفسه وإن اختلفت الأسماء والشعارات. فقد ارتدى كثير من الأحزاب عباءة الوطنية لمواجهة القوى المناهضة للكيان الصهيوني. ومن أبرز الأمثلة حزب الإصلاح، الذي كان في الماضي يحرّم فكرة الوطنية ويصفها بأنها بدعة، لكنه اليوم يتبناها علناً ليبرر انخراطه في التحالفات الموالية للصهيونية من الداخل. ولم يكن ذلك نابعاً من حرص حقيقي على اليمن، بل مجرد محاولة لتغطية خيانته وتجميل ولائه لأعداء الأمة. وهكذا أصبح شعار “الوطنية” وسيلة للهروب من مواجهة العدو، وذريعة لتبرير العدوان، تماماً كما وصف الناطق باسم كتائب القسام دورهم بأنه لا يتعدى كونه أداة لتخدير مشاعر الشباب وصرفهم عن العدو الأول للأمة الإسلامية.
وهكذا يتبين أن عملاء الصهيونية لا يتحركون وفق مبدأ أو عقيدة، بل وفق مصلحة عدوهم، يتقلبون بين الدين والوطنية كما تتقلب الحرباء. فتارةً يرفعون راية الدين حين تخدم أهدافهم، ثم يخلعونها ليرتدوا ثوب الوطنية عندما يقتضي الأمر، والغاية دائماً واحدة: تشويه المقاومة، وإضعاف جبهة الأمة، وفتح الأبواب أمام المشروع الصهيوني ليتغلغل من الداخل. ومن لم يدرك هذه الحقيقة سيظل ضحية لشعارات براقة وأقنعة مخادعة، بينما العدو يثبت أقدامه، ويتقدم خطوة بخطوة، حتى يجد نفسه أمام خيانة مكتملة الأركان تُسوّق باسم الدين تارة، وباسم الوطن تارة أخرى.