الثورة

عبدالرحمن مراد

 

يعيش اليمن هذه الأشهر الثلاثة (سبتمبر وأكتوبر ونوفمبر) زمنا ثوريا شكل محطات في تاريخه، وهو زمن له ما له، وعليه ما عليه، لا يرقى إلى مراتب القداسة والثبات، كما نلحظ في بعض التناولات الإعلامية التي تحاول أن ترى الحدث من زاوية بعينها ثم تقف عنده بقدر من القداسة والثبات، ومثل ذلك من طبيعة حركة التاريخ وليس غريبا عليه, فكل حركة في التاريخ تحدث تحولا وفق الظرف التاريخي والسياسي والاجتماعي كمقدمة كان من نتائجها ما حدث، وهذا الزمن بالضرورة يأتي بظلال أخرى تكون سببا في حدوث غيره ذلك لأن الحياة في تطور مستمر والإنسان نتاج ذلك ويتفاعل معه، وحاجات الأنسان وضروراته تختلف فكلما تقدم بنا المستوى الحضاري والتفاعلات مع الحياة كلما تغيرت الضرورات والعلاقات في الإنتاج وفي أدوات الإنتاج، وفي المفاهيم وفي البناءات الثقافية، فالمجتمع الذي كان يرى العمل في غير الزراعة عيبا، أصبح اليوم يمارس المهن المختلفة ولا يرى العيب إلا في فقدان القدرة على العمل وفي الكسل ومثل هذا المتغير من عوامل نجاح الثورات لأنها تحدث هزات عنيفة في المجتمع حتى يتطور مع المستوى الحضاري من حوله، والمجتمع الذي كان يرى تمايزا طبقيا بين فئات المجتمع أصبح اليوم لا يرى التمايز إلا في القدرات والطاقات الفردية ومدى قدرة الفرد على العيش الكريم وتحمل المسؤولية الاجتماعية في الحياة، والمجتمع الذي كان يرى التعليم ترفا ويفضل انخراط الأطفال في أعمال الرعي والزراعة أصبح اليوم يرى العلم والمعرفة من ضرورات الحياة، وتغيرت حاجات المجتمع اليوم فهي غيرها بالأمس، واتسعت وظائف الدولة، وتغيرت الكثير من الوظائف والمفاهيم في حياة المجتمع اليمني والعربي كله، وذلك بفضل حركة التاريخ الثوري في القرن العشرين أو في منتصفه بالتحديد، فقد تحرر من المستعمر، ورفع راية الحرية والاستقلال في كل قطر من الأقطار التي كانت ترضخ تحت نير الاستعمار، ودخلت في قاموس الحياة السياسة مصطلحات جديدة مثل الثورة، والحرية، والديمقراطية، والاستقلال، والوطنية، والبرامج والأحزاب السياسية، والنظريات التي تدرس تطور المجتمعات، والصحف والمجلات، وحرية الرأي، وأنتقل الإنسان من الدولة التقليدية التي لا ترى فيه إلا تابعا مكلفا بدفع الضرائب، إلى مواطن يكفل له الدستور حقوقا اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية ويحدد ما عليه من واجبات، وأصبح مشاركا في صناعة التاريخ وليس عبئا عليه .
فالثورة هي التي تحمل مشروع دولة، ومشروع مجتمع، وتكون على قدر من التحرر من الغرب، ومن الماضي، لتبدع وتبتكر واقعا جديدا، يمتاز بالاستقلال والمعرفة، والخصوصية التي تكون تعبيرا عن وطنه، وعن هويته الثقافية والحضارية، ذات رؤية في البناء الذي يقضي على الشتات السياسي، ويحاول إنجاز القوة الاقتصادية والديمغرافية في عالم أصبح ينمو بسرعة البرق في اتجاه التكتلات السياسية والاستراتيجية الكبيرة والفاعلة في القرارات الإنسانية الكبرى من حروب وسياسات وثقافات وغيرها من الأدوات القادرة على الإقصاء والإضعاف .
ولذلك ليس من الصواب تحليل الوعي المجتمعي اليوم، من خلال مواقع طبقية أو إيديولوجية واحدة، لأنه سيكوّن قراءة منحازة ، فنحن نخطئ إذا استنتجنا أن الأفكار التي تحرك الفرد موجودة في الفرد وحده، فالتفكير يقوم به الناس في جماعات معينة، وضمن سياقات كانت قد طورتها لنفسها كأسلوب خاص في التفكير، وهو ما يمكن اعتباره تشكلًا لـ “هوية ثقافية”. وبعض المفكرين يرى أن الناس يعيشون في جماعات وليس كأفراد منفصلين، بل يتصرفون مع أو ضد بعضهم، ضمن جماعات متنوعة التنظيم.
لقد أظهر المثقف العضوي «الأحزاب والمنظمات» فشلاً ذريعاً في صناعة واقع أجد يتوازى وأحلام وتطلعات الناس في واقع الحياة اليوم ، ذلك لأنه يتمحور حول الأيديولوجيا ولم يتجدد، وتبعاً لذلك، فقد عجز عجزاً كاملاً عن ضبط إيقاع المفهوم وشاعت في ممارسته وتعاطيه وتفاعله مع الأحداث الفوضى (سقوط الأيديولوجيا) والفوضى لا تصنع مستقبلاً آمناً ومستقراً ولكنها تمهد الطريق للماضي لكي يتمظهر بمظاهر الثورية والتطلع، ولا تجد نفسها – أي الفوضى – إلا في موقف المبرر والمدافع، ومثل ذلك أصبح ملحوظاً ولا يمكن تجاهله، وغياب المثقف الحقيقي والفرد كان نتاج واقع تم تكريسه في الوجدان الجمعي لا يحتفي إلا بالشكل والادعاء دون النفاذ إلى جوهر الأشياء لذلك كان المهاد لثورة 21سبتمبر لكي تعيد نسق النظام العام والطبيعي إلى نساقه.
ويفترض بنا اليوم ونحن نحتفل بالثورة – على وجه العموم ودون تخصيص – أن نقرأ الواقع ونقرأ التاريخ في سياقاته المختلفة، وحين نقف أمام ذكرى الثورة نقف بعقل الناقد الذي يستشرف المستقبل من بين غيوم وإشكالات الماضي.
نحن اليوم في زمن يتكالب العالم من حولنا كله على وأد أحلامنا في الحرية والاستقلال وفي البناء والحياة، وهذا العالم يخوض معنا حربا وجودية – وهي معلنة اليوم وفاعلة – فما يحدث في غزة وفي الكثير من العواصم العربية وفي اليمن بالذات قضايا كبرى تجعلنا نعيد قراءة الواقع وترتيب ملفاتنا بما يتسق مع التطورات.

قد يعجبك ايضا