العاصفة التي لا يُجدي معها الانحناء

سند الصيادي

 

 

لم تَعُدِ العواصف التي تهبّ على المنطقة العربية عواصف عابرة يمكن اجتيازها بانتظار انقشاعها، أو بالانحناء لتمرّ بأقل الخسائر، لقد تحوّلت إلى إعصار استراتيجي مُصمّم لإعادة تشكيل الخرائط، وتركيع الإرادات، واقتلاع أي جذور للبقاء أو المقاومة.
في مواجهة هذا التيار الجارف، تظهر كل الخيارات العربية التقليدية – من سياسة «الانحناء أمام العاصفة» إلى «الخروج بأقل الخسائر» و«المراهنة على المرونة الدبلوماسية» – كأدوات بالية، أشبه بمظلة ورقية في إعصار، غير مجدية ولا قادرة حتى على الحفاظ على الأوضاع المترهلة كما هي عليه.
السبب الجوهري في هذا العجز ليس ضعفًا تقنيًّا في الدبلوماسية العربية، بل هو فجوة استراتيجية وقوة إرادة، «العدو» لم يعد ذلك الكيان الذي يمكن احتواؤه بمساومات هامشية أو تهدئة مؤقتة، إنه يمتلك رؤية استراتيجية واضحة ومعلنة، مدعومة بقوة عسكرية هائلة وظروف دولية غير مسبوقة، وهو يعمل بذكاء وتوحش وإجرام لتحقيق أهدافه الكبرى.
في هذه المعادلة، يصبح «التذاكي» الدبلوماسي للأنظمة العربية، والذي غالبًا ما يكون مجرد رد فعل وليس فعلًا، محكومًا بالفشل، إنه يشبه لاعب شطرنج يحاول تأخير خسارته بتحريكات جانبية، بينما خصمه يرى اللعبة بأكملها ويتقدم لتحقيق «كش ملك» استراتيجي.
الانحناء أمام العاصفة وسياسة الصبر والتأقلم اليوم لن تحفظ شيئًا، بل تسهّل عملية الاقتلاع، وتمنح الخصم الوقت والمجال لترسيخ مكاسبه على الأرض وفي الوعي الدولي، لتصبح لاحقًا أمرًا واقعًا لا يمكن الرجوع عنه.
كما إن النظرة القصيرة التي تنطلق من افتراض خاطئ وهو أن «الأضرار» مؤقتة وقابلة للإصلاح لاحقًا، يدحضها أن المكاسب التي يحققها الخصم اليوم ليست أضرارًا عابرة؛ إنها مكاسب استراتيجية قاتلة تغير التوازن الديموغرافي والسياسي والعسكري، والخروج بأقل الخسائر من معركة كهذه يعني عمليًا القبول بفقدان جوهر القضية، والاكتفاء بإدارة حالة الانهيار بدلاً من مواجهتها.
الدبلوماسية لا تعمل في فراغ، قوة الدبلوماسية تأتي من قوة ورقة الضغط التي تمتلكها، والمرونة بدون قوة ردع حقيقية – عسكرية، اقتصادية، سياسية موحدة – هي مجرد تسويف وطلب للرحمة، الخصم يدرك هذا الضعف العربي جيدًا، ولن تقنعه خطابات الندوات وقمم التنديد، فالدبلوماسية الفعالة هي التي تدعمها إرادة موحدة وقدرة على الردع، وليس تلك التي تستخدم كلغة للاعتذار عن الضعف.
في هذا السياق المؤلم، كانت القمة العربية الأخيرة فرصة تاريخية ذهبية ضائعة – لقلب هذه المعادلة، كانت الفرصة الأخيرة لمواجهة ذلك التيار الجارف، أو على الأقل تقليل تسارعه المدمر عبر تبني استراتيجية موحدة وجريئة تقطع مزالق التبعية والارتجال.
للأسف، يبدو أن الفرصة قد ضاعت مرة أخرى، لتعيد الأمة إنتاج نفس حلول الماضي لمشاكل المستقبل المصيرية، والخطر الأكبر لم يعد هو خسارة جولة، بل هو الدخول إلى «مرحلة جديدة» يُخرجنا منها الخصم محمّلًا بمكاسب استراتيجية قاتلة، لن نتمكن بعدها من استعادة أنفسنا، أو حتى البقاء على ما نحن عليه.
والسؤال الذي يفرض نفسه الآن: إذا كانت هذه الخيارات كلها غير مجدية، فما هو الخيار البديل الذي لم تجرؤ النخب الحاكمة على النقاش فيه حتى الآن؟.

قد يعجبك ايضا