لا عواصم آمنة طالما بقيت دولها بلا حول ولا قوة

سليمان أبو ارشيد

 

ليست المرة الأولى التي يقوم فيها طيران إسرائيل بقصف مواقع في دولة عربية بعيدة عن ساحة المواجهة الفلسطينية/العربية-الإسرائيلية، ولا تُصنّف كدولة عدو. فقد سبق أن قصفت إسرائيل عام 1985م مقر منظمة التحرير الفلسطينية في “حمام الشط”، بالعاصمة التونسية، التي تبعد أكثر من 2000 كم، وربطت قيادتها علاقات “ودية” بإسرائيل، حيث جرى استهداف اجتماع كان مقررًا عقده بحضور ياسر عرفات، وأُلغي في اللحظة الأخيرة.
حينها أيضًا نجت القيادة الفلسطينية المستهدفة، وعلى رأسها ياسر عرفات، من الضربة التي أسفرت عن استشهاد وإصابة عشرات الفلسطينيين والتونسيين، وأفشلت خطة إسرائيل في تصفية قيادة المقاومة الفلسطينية الخارجة للتو من حصار بيروت.
واليوم، وإن تبدلت الأسماء والفصائل والعواصم، فإن إسرائيل ما زالت هي إسرائيل، التي لا تلتزم بأخلاق أو أعراف أو قوانين، ولا تقيم أي وزن لعهود ومواثيق وصداقات، والمقاومة بالنسبة لها هي المقاومة، بغضّ النظر عن الزمان والمكان والهوية السياسية، كانت فتح أو حماس أو شعبية أو غيرها، كلهم من وجهة نظرها “فلسطينيون يستحقون الموت”، طالما يرفعون راية المقاومة وتحرير فلسطين.
قبل أيام، عرضت قناة “كان” العبرية، بعد سنتين من الصراع على بثه، فيلمًا لمخرجة إسرائيلية عن النكبة الفلسطينية بعنوان “1948م: نتذكر وننسى”، والذي يتبنى رواية المؤرخين الجدد حول النكبة، والتي تُفنِّد الأساطير الصهيونية التي تأسست عليها إسرائيل، وعلى رأسها “القلة مقابل الكثرة”، و”العرب هربوا طوعًا”، ويُظهر، كما يورد محرر “هآرتس” ألوف بن، كيف أن الجانب اليهودي تمتع بأفضلية عسكرية منذ بداية الحرب، وأن طرد الفلسطينيين استند إلى استراتيجية منظمة تمثلت في “الخطة د”.
المخرجة أنهت فيلمها قبل “حرب السابع من أكتوبر”، كما يسميها بن، فيما عظّمت المساحة الزمنية الفاصلة بين الانتهاء من إخراجه وبين بثه “القصة”، حيث تنفذ إسرائيل الآن نكبة ثانية في غزة والضفة الغربية، بينما يلوذ المجتمع اليهودي في ظلها بحالة من الإخفاء والإنكار، مثلما حدث في نكبة عام 1948م، كما يقول.
ويبدو أن ألوف بن، كغيره من أتباع ما كان يُعرف باليسار الصهيوني، الذي يؤيد ويبرر الجزء الأول من القصة “نكبة 48″، وحتى إنه مستعد أن يمارس نقدًا ذاتيًا على نفسه طالما أن ذلك لن يغير من واقع المشروع الاستعماري الصهيوني وثمرته التي تجسدت بإقامة دولة إسرائيل على 78% من فلسطين التاريخية، والتوصل إلى تسوية على غرار أوسلو على الـ22% الباقية. في حين أن من غابوا أو جرى تغييب دورهم عن هذا الجزء، لا يتنازلون عن تتويج هذا المشروع بالسيطرة على كامل فلسطين، وانتزاع دور البطولة على كامل حلقات المسلسل الصهيوني.
من هنا إصرار نتنياهو، زعيم “الليكود”، الامتداد التاريخي للتيار التحريفي الذي لعب دورًا هامشيًا في مرحلة التأسيس، و”الصهيونية الدينية” التي غابت نهائيًا عن هذه المرحلة، على مواصلة الحرب حتى تهجير غزة وضم الضفة، باعتبار ذلك ضرورة تضعهم مع بن غوريون على قدم المساواة، وقد تقدمهم عليه.
في هذا السياق، يمكن فهم الإصرار بعد 77 عامًا على انتشال السفينة “التالينا”، التي كانت تحمل السلاح لمنظمة “الإيتسل”، وأُغرقت بأمر من بن غوريون بعد رفض قادة “الإيتسل” تسليم السلاح الذي على متنها إلى “الهاغاناه”، التي كان قد جرى تحويلها إلى الجيش الرسمي للدولة الوليدة.
ورغم أن الليكود يحكم إسرائيل منذ 45 عامًا، إلا أن زعانفه الدينية الاستيطانية حديثة العهد، التي باتت تهيمن على قراره السياسي، تقوده وتقود إسرائيل نحو استكمال مشروعها الاستعماري الاستيطاني، القائم على المحو والتطهير العرقي، في السيطرة على كامل فلسطين التاريخية والهيمنة على المنطقة العربية برمتها.
والحال كذلك، فلا مكان آمن للفلسطيني في أي من العواصم العربية والإسلامية الممتدة من البحر إلى البحر، والواقعة جميعها تحت تهديد الذراع الطويلة لإسرائيل وطيرانها الأميركي الصنع، حتى لو كانت تستضيف أكبر قاعدة أميركية في الشرق الأوسط. كما أن تلك العواصم لن تكون آمنة لأهلها أيضًا، طالما بقيت محكومة من دول لا حول لها ولا قوة في وجه التمدد الإسرائيلي.
كاتب فلسطيني

قد يعجبك ايضا