مولد النبي في اليمن.. عشق متجذِّر يتجلى بعد ثورة 21 سبتمبر

محمد عبدالمؤمن الشامي

 

يأتي المولد النبوي الشريف كل عام ليجدّد في وجدان اليمنيين شعلة الولاء والعشق لرسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ذلك الولاء الذي لم يكن يوماً مجرد طقسٍ احتفالي أو عادة موسمية، بل هو ارتباط تاريخي وروحي متجذّر في هوية هذا الشعب منذ فجر الإسلام. فقد كان اليمنيون من أوائل من استجاب لدعوة النبي، وأوائل من حملوا الرسالة إلى أصقاع الأرض. وما زال صداها يتردّد اليوم حين يتزين اليمن بالإيمان والحكمة كما وصفه الرسول الكريم بقوله: «الإيمان يمان والحكمة يمانية».

لقد ارتبط اليمنيون بالنبي ارتباطاً وثيقاً، ليس فقط لكونه رسول الإسلام، بل باعتباره قدوةً ومرشداً ومعلّماً وقائداً يرون في سيرته المنهاج الأوضح لمواجهة التحديات وصناعة المستقبل. ولهذا فإنهم حين يحتفلون بمولده الشريف، فإنهم لا يسترجعون ذكرى تاريخية فحسب، بل يعلنون ولاءً متجدداً لرسالته ويؤكدون التزامهم العملي بالنهج المحمدي.

ولعلّ أبرز ما يميّز المولد النبوي في اليمن أنّه لا يشبه أي احتفال في العالم الإسلامي. فمنذ سنوات، والاحتفال يتخذ طابعاً مهيباً قلّ نظيره: ملايين من الرجال والنساء يملؤون الساحات والميادين في العاصمة صنعاء وفي صعدة والحديدة وإب وذمار وتعز وغيرها من المحافظات، يرفعون الرايات الخضراء، ويهتفون باسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في مشهد يختلط فيه البهاء الإيماني بالزخم الشعبي، ليصنع لوحة حضارية وروحية فريدة.

بعد ثورة 21 سبتمبر 2014، اكتسب المولد في اليمن بُعداً جديداً؛ فقد أعادت الثورة الاعتبار للهوية الإيمانية للشعب اليمني، وجعلت من حب النبي والارتباط به محوراً مركزياً للمشروع السياسي والاجتماعي. لم يعد المولد مجرد فعالية روحية، بل غدا أيضاً رسالة سياسية وثورية، تقول للعالم إن اليمن متمسك بهويته الإسلامية في مواجهة الاستكبار العالمي ومحاولات الطمس الثقافي والتضليل الإعلامي.

ولذلك فإن الاحتفاء بالمولد أصبح محطة لتجديد البيعة للرسول، وإعلاناً واضحاً أن اليمنيين، رغم ما يواجهونه من حصار وعدوان، يستمدون من النبي القوة على الصمود، ومن سيرته الشجاعة على مواجهة التحديات. ملايين اليمنيين الذين يخرجون إلى الساحات لا يكتفون بالتعبير عن مشاعر الفرح، بل يرسلون للعالم رسالة مفادها أن مشروعهم يستمد جذوره من مدرسة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأنهم باقون على العهد مهما تعاظمت التضحيات.

إن هذا الارتباط العميق بالمولد النبوي يكشف سرّ الصمود اليمني في وجه العدوان. فحين يواجه الشعب أقوى آلات الحرب العالمية منذ أكثر من عشر سنوات، ويظل واقفاً صامداً، فإن ذلك لا يمكن تفسيره فقط بالجانب العسكري أو السياسي، بل بالجانب الروحي والإيماني الذي يغذيه الولاء لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. المولد النبوي في اليمن ليس مجرد مهرجان، بل هو طاقة معنوية هائلة تجدد الروح، وتبث العزيمة في القلوب، وتحوّل المحبة إلى فعل مقاومة.

وعلى المستوى الثقافي والاجتماعي، تحوّل المولد إلى مدرسة جامعة للأجيال. ففيه يتربى الأطفال على حب الرسول، ويتعلم الشباب معنى الاقتداء بسيرته، ويستمد الكبار عزيمتهم من نور الرسالة. وهو ما يجعل المولد في اليمن حدثاً يتجاوز الطابع الديني إلى أن يكون ظاهرة حضارية تُعيد تشكيل وعي المجتمع وتحصنه ضد الغزو الثقافي والفكري.

اليوم، حين ينظر العالم إلى ساحات صنعاء وصعدة والحديدة وذمار وإب وريمة وحجة وغيرها وهي تضج بملايين المحتفلين، يدرك أن اليمن أصبح مركزاً لإحياء ذكرى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على مستوى الأمة الإسلامية بأسرها. بل إن البعض يصف احتفالات اليمن بالمولد بأنها الأكبر في التاريخ الإسلامي المعاصر، سواء من حيث حجم الحشود أو من حيث صدق المشاعر وعمق الارتباط.

وفي المقابل، يكشف هذا المشهد الفارق الكبير بين من يحتفلون بالنبي حباً وولاءً وارتباطاً حقيقياً، وبين من يحاولون إفراغ المناسبة من مضمونها أو يمرّون عليها مروراً بارداً بلا أثر في الواقع. فبينما تُسعى بعض القوى لإبعاد الأمة عن نبيها وتشويه صورته، يقدّم اليمنيون النموذج العملي للأمة كلها بأن العودة إلى الرسول هي طريق العزة والكرامة والتحرر.

إن المولد النبوي في اليمن بعد ثورة 21 سبتمبر لم يعد مجرد يومٍ للابتهاج، بل أصبح عنواناً للصمود والهوية. ومن خلاله يعلن اليمنيون أن علاقتهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم علاقة وجودية لا تنفصم، وأن حبهم له ليس مجرد عاطفة جامدة، بل مشروع حياة يترجمونه في مقاومتهم وصبرهم وتضحياتهم.

ولذلك، فإن ذكرى المولد النبوي في اليمن هي في حقيقتها تجديد دائم للعهد مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وتأكيد أن هذا الشعب سيبقى وفياً لرسالة السماء مهما تكالبت عليه قوى الأرض. إنها لحظة يتجسد فيها التاريخ والحاضر والمستقبل، لحظة يقول فيها اليمنيون بصوت واحد: ما دام محمد صلى الله عليه وآله وسلم قد أضاء درب الإنسانية، فلن تنطفئ في اليمن شعلة الحب النبوي، وسيظل المولد مدرسةً تخرج أجيال النصر والعزة حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

 

قد يعجبك ايضا