منذ أكثر من نصف قرن واليمن واليمنيون يراوحون محاولات الخروج من معضلة الاشتباك الفكري والمفاهيمي للاستقرار السياسي والجدل المستمر بين الفكرة والمشروع والذهن المجتمعي الذي لم يعد يثق بكل الشعارات وما إن تظهر ملامح مشروع سياسي يبدأ خطواته الأولى على أرض الواقع إلا وتجلت محبطات تعيد الذهن المجتمعي إلى غمرة الحْلْم اللذيذ بشروق مشروع سياسي أجد ينتصر لمعاني ودلالات الدولة بكل ما تقتضيه الحالة من إحساس بوجودية دولة المؤسسات الكفيلة بالاستدامة ولو (20) عاماٍ شريطة أن تخلو هذه المساحة الزمنية من أي عوائق أمام هذا المشروع..
في هذه المادة المختزلة سنبحث في جوهر وممكنات المشروع المستقر من خلال شريط سريع لرؤى تتلون فكرياٍ وثقافياٍ وتنموياٍ واجتماعياٍ وشبابياٍ لكنها تلتقي في مصب تشخيص مْعúضلة غياب الاستقرار السياسي في اليمن.. إلى التفاصيل
في كتابه (عبور المضيق – دراسة أولية في تجربة الحوار الوطني الشامل) يعيد الدكتور ياسين سعيد نعمان أسباب وعوامل غياب الاستقرار السياسي إلى اتساع بؤر الصراع السلطوي في اليمن وضياع فرص النهوض على قاعدة من المساواة بالتالي تآكل أي مشروع سياسي وطني كبير في دروب الصراع السلطوي بين رموز ومؤسسي هذا المشروع ولا يكاد يصل إلى غايته إلا وقد تلاشى ولم يبقِ منúهْ إلا هيكله الذي لا يجدي.. “أي نظرياته ورؤاه الفكرية المستنيرة التي لم تعد قادرة على مواجهة أضعف عواصف الصراع السلطوي”..
الدكتور ياسين سعيد نعمان أفصح عن ذلك في إشارات كثيرة في كتابه أهمها أنه أورد في نهاية الجزء الأول من كتابه (عبور المضيق) حْبúكة رواية “الشيخ والبحر” لأرنست همنجوايº فالصياد العجوز الذي يصطاد بقاربه العتيق الصغير سمكة ضخمة لم يستطع أن يسحبها إلى قاربه وإن استطاع بمعجزة ما فلن يتسع لها القارب وقرر أن يشدها إلى ظهر القارب كي تساعده الأمواج في سحبها إلى الشاطئ. وفي الطريق إلى الشاطئ هاجمت أسماك القرش سمكته. قاومها بقوة وعناد شديدين.. قاوم وظل يقاوم حتى وصل إلى الشاطئ ولم يكن قد بقي من سمكته غير هيكل عظمي..
بهذه الرسالة القوية يفلسف ويفند الدكتور ياسين سعيد نعمان عوامل وأسباب معضلة غياب الاستقرار السياسي في اليمن منطلقاٍ من بْعد التراكمية عبر حْقِبُ تاريخية مِضِتú محولة مفهوم الوطن والمواطنة كأهم ركائز الاستقرار وعلاماته إلى أعاصير من الأحلام والشعارات التي يتبادلها الساسة وأرباب السلطة والنفوذ في حضرة من النخب الفكرية والمعرفية والثقافية العاجزة عن إضفاء روح الإنسان اليمني وطموحه وأصالة ثقافته وحضارته على أدبيات السياسة ومقتضيات وسائل بلوغ هرم الحْكم والإدارة إذ ظلت شهوة السلطة ووسائل بلوغها وامتلاكها هي المسيطرة على مجريات وتفاعلات العمل السياسي لكل قوى النفوذ..
من نافذة الفكر الاجتماعي
أن القاعدة العريضة والأهم في تعايش المجتمع والقبول بالآخر في مستوى إنساني دون تمايزات هي أهم دعائم الاستقرار السياسي من منظور اجتماعي فلا تتميز فئة أو طائفة أو حزب أو قبيلة أو سلالة على غيرها مطلقاٍ فللكل حق الحياة وحق الفكر والرأي والمعتقد والحق في السلطة والسياسة والقرار على قاعدة تشريعية تحمي حقوق الجميع ومكتسبات الجميع..
هذه هي الأرضية الأنسب والأهم لنمو استقرار سياسي في أي مجتمع من المجتمعات حسب أطروحات المفكر اليمني الكبير الأستاذ الدكتور حمود العودي أستاذ علم الاجتماع في جامعة صنعاء وصاحب مؤلفات وأبحاث اجتماعية سياسية أثارت جدلاٍ واسعاٍ ورؤى مؤيدة من مفكري علم السياسة والاجتماع..
ففي نقاش مطولُ حول معضلة غياب الاستقرار السياسي أكد المفكر العودي لـ الثورة أن اليمن لها خصوصيتان ثابتتان على صعيد قصِر المسار الزمني لا سيما في التاريخ المعاصر وهي الاستقرار وعدم الاستقرار.. فلا هي استقرت لفترة زمنية كافية لإحداث تحول إيجابي ولا هي انهارت وقضى انهيارها على مفهوم الوطن والهوية.. صحيح قد تستقر لعقود في مسألة ثبات الحاكمية الواحدة لكن هذه العقود تبقى مشتعلة بالصراعات التي تضيع كامل فرص البناء والنماء والاستقرار..
وقال الدكتور العودي: العملية برمتها تقوم على معادلة بسيطة مفادها أن الاستقرار مشروط بشراكة القمة مع القاعدة والمركز مع الأطراف لأن ظروف العيش لا تسمح بوجود استئثار من المركز على شكل فرعون ضد الأطراف ولا تسمح للأطراف بأن تلغي الدولة كمركز له سلطته على الأطراف.. وتظل المعادلة قائمة ومتزنة حين يقبل كل طرف بالآخر ولذلك كلام الله في كتابه العزيز وهو أقوى الحجج على لسان ملكة سبأ وهي تقول لقومها: (قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمراٍ حتى تشهدون. قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين).. ليس من قبيل العبث فهنا في حوار وقبول برأي الآخر بين المركز (الحاكم أو الرئيس أو الملك) وبين الشعب (المرؤوسين).. وليس كلام الله – من قبيل العبث- على لسان فرعون وهو يخاطب قومه : (أنا ربكم الأعلى وما علمت لكم من إله غيري) فهنا استفراد في الأمر واختلال في المعادلة..
وأضاف العودي : تاريخ اليمن بكل مراحله يؤكد أن كل مراحل الاستقرار والازدهار والرخاء التي مكنت هذه المنطقة من الكرة الأرضية من بناء واحدة من أبرز وأهم حضارات الأرض القديمة وكانت مبنية على هذه المعادلة أي مبدأ إقرار المركز بحقوق الأطراف والعكس.. فحين يطغي المركز على الأطراف تصدر من الأطراف قوة هائلة لا تسمح مطلقاٍ باختزال مثل هذه المعادلة في المركز.. وبالتالي يبدأ الرفض ويدور الصراع الذي لا يخرج منه أحد منتصر لا المركز ينتصر فيخلق فرعون ولا الأطراف تنتصر فتلغي الدولة ومن ثم تلغي الوطن بل يستمر الصراع ويعود اليمنيون إلى مربع الشتات الذي عاشوه بعد آية الجنتين وانهيار سد مأرب..
وحول الواقع اليمني السياسي قال العودي: عندما تريد الأطراف أن تكون إقطاعيات ونزوات قبلية طائفية مناطقية أو غيرها من المشاريع الصغيرة التي تنعق هذه الأيام بأصوات مرتفعة.. هي أيضاٍ تضعف الدولة لكنها لا تستطيع أن توجد بديل ولا حتى تدافع عن نفسها لان القبيلة لن تنجح وكذلك الطائفة والمذهب والحزب لن ينجح.. ولن تنجح الإقطاعية الموجود في ذهنية (س أو ص) من الناس في العْدين أو تهامة أو غيرها.. بل ينجح الخراب.. ولكن مفهوم الوطن لن تمت كما لم يمكن الهوية المشتركة..
قوى النفوذ المادي
يبقى الصراع السياسي بين قوى النفوذ (المادي) الذاتي وبين القوى التي تحمل المشاريع السياسية الوطنية الكبرى والممكن تتطابق أنساقها مع بناء المجتمع ثقافيا واجتماعياٍ وعقائدياٍ هي أهم العوامل المؤثرة على طريق الاستقرار السياسي لأي مجتمع.. لكن هذه العوامل تذوب حسب مفكري علúم الاقتصاد السياسي حين تتوفر العدالة الاجتماعية في توزيع الثروة والعدالة السياسية في توزيع السلطة وحق القرار السياسي لأي بلد لكن القاعدة الأهم في تنفيذ هذه المعادلة الأهم هي وجود الدولة وعوامل ثباتها واستقرارها وقدرتها على الانتصار لحق المؤسسة من الفرد والقبيلة ولحق الفرد والقبيلة من الدولة في حماية التوازن بكل صوره..
هذا ما ألمح إليه المفكر السياسي والاقتصادي الأستاذ أنيس حسن يحيى (قيادي في الحزب الاشتراكي ومثقف يساري كبير) في -تناولات سابقة – مؤكداٍ أن غياب الدولة بمعناها المؤسسي ليس صدفة وإنما كان بفعل قوى مهيمنة في المجتمع ولعبت القبيلة –تحديداٍ- الدور الأبرز طوال عقود من الزمن في تغييب أي دور للدولة بمعناها المؤسسي. لأن وجود دولة بهذا المعنى لا يتماشى مع مصالح هذه القوى المتنفذة في المجتمع وتحديداٍ القبيلة ومتنفذيها.. وما ينبغي التأكيد عليه هو أن للقبيلة -برموزها- نفوذاٍ متجذراٍ في حياة المجتمع. وهو أمر لا يجوز لنا تجاهله فبسبب هذا الواقع الاجتماعي المعقد تعذر وجود الدولة المؤسسية وبالتالي تعذر وجود أي دور لها في حياة المجتمع.. وهذا الواقع شديد التعقيد- جعلنا نشكك في إمكانية نجاح أية مساعُ لبناء دولة مدنية حديثة حتى لو كانت جدية.. فإذا كانت الدولة بمعناها المؤسسة غائبة تماماٍ.. فكيف لنا أن “نتوهم” أن ثمة إمكانية لبناء دولة مدنية حديثة.. لكن لا يجوز أن يفقدنا هذا الواقع الاجتماعي حقنا في الحلم ببناء دولة مدنية حديثة وعلينا أن نناضل بدأبُ في سبيل تحقيقها..
عامل رئيسي
الثروة الموارد والقدرات البشرية عوامل ومرتكزات التنمية الحقيقية في أي بلد من بلدان العالم لكن أبرز الصراعات السياسية والتسلطية تدور حول الموارد والثروات ففي هذه الحالة تكون الموارد هي جوهر غياب الاستقرار السياسي حين تفقد عدالة التوزيع والإدارة أمام حين تكون هذه الموارد موزعة وفق عدالة ترضي المجتمعات فتكون أرضاٍ وبيئة تنموية مساهمة بأكثر من 70% من دعائم الاستقرار السياسي فالعلاقة تكاملية بين التنمية والدولة العادلة.. ولا يمكن للتنمية أن تتحقق دون استقرار سياسي كما لا يمكن للاستقرار السياسي أن يتحقق دون تنمية وعوامل وموارد نماء..
هذا ما لفت إليه الأستاذ الدكتور سعيد العبد بانعيمون الأكاديمي في جامعة حضرموت ورجل الأعمال المدير التنفيذي لمجلس رجال الأعمال اليمني السعودي ورئيس لجنة الاستثمار بالاتحاد العام للغرف التجارية اليمنية مؤكداٍ أن معضلة اليمن ليست في الموارد أو قلة فرص الاستثمار فاليمن أرض موارد وفرص بكر لكن المشكلة في غياب الاستقرار السياسي والأمني معتبراٍ الاستقرار السياسي أهم العوامل المؤثرة على بيئة التنمية والاستثمار, كما أنه الشرط الحتمي للنجاح التنموي ولنماء رؤوس الأموال وسباقها الاستثماري في أي بلد من بلدان العالم.. مؤكداٍ أن اليمن مرت بظروف صعبة أضاع اليمنيون خلالها جملة من فرص التنمية والبناء بسبب الصراع السياسي وحتى الآن لم تزل التحديات كابحة للاستقرار وللاستثمار الذي هو عادة محرك التنمية واليوم أمام اليمن فرصة جديدة هي نظام الأقاليم أو الفيدرالية التي اتكأت عليها كثير من الدول المعروفة وكان أهم نتائج ذلك نهوض اقتصادها وعليه نأمل أن يتم الانتقال السريع إلى دولة الأقاليم وأن يرافق هذا الانتقال استقرار أمني وسياسي وعندها ستكون البيئة الاستثمارية جيده وجاذبه للمستثمرين المحليين والخليجيين والدوليين فرؤوس الأموال تتطلب فرصاٍ أكثر أماناٍ وأقل مخاطراٍ..
النهوض السريع
أمام هذا التعقيد في غياب مشاريع الاستقرار السياسي على الساحة اليمنية يبقى الشباب واتقاد طموحه الوطني هو العامل الأهم على طريق المستقبل وفي ذروة الحاضر المشتعل بفرص كثيرة تتكدس وسط عواصف التحديات.. وحضور الشباب في مؤتمر الحوار الوطني الشامل كان علامة فارقة في مستوى تنامي خارطة الشباب الذي يمكن لها أن تغير معادلة الصراع لصالح القضية الوطنية الكبرى من خلال ضغط المشروع الوطني (الدولة المدنية الحديثة) على مسار هذه الصراعات.. هذا ما أشارت إليها الناشطة السياسية في الحزب الاشتراكي اليمني أروى الهيال موضحة أن شباب الحاضر متفائلا جداٍ رغم كل التحديات التي يفرضها الواقع وتبرز واضحة في تفاعلات العمل السياسي..
وقالت الهيال: بدون طموح الشباب وجهودهم لن نجتاز التحديات في بناء الدولة المدنية الحديثة التي نحلم بها ويحلم بها كل يمني فالدولة والاستقرار السياسي دعامتا البناء والاستقرار الاجتماعي والأمني والنهوض السريع في أي مجتمع فإذا تحقق الاستقرار السياسي قامت على استقراره ملامح دولة نهضوية قوية وإذا قامت الدولة المدنية الحديثة القوية ساهمت في إرساء دعائم الاستقرار السياسي ودور الشباب في هذه إيجاد هذه المعادلة يظل هو المطلوب الأساسي..
الهيال ترى أيضاٍ أن الحالة السياسية اليوم تؤكد أن الاستقرار السياسي في اليمن مرهون بقيام الدولة المدنية الحديثة الضامنة للعدالة والمواطنة المتساوية التي نصت على كافة ركائزها وثيقة مخرجات الحوار الوطني الشامل.. وعلينا كيمنيين بذل جهود كبيرة ومضنية حتى نصل إليها نحن نعيش صراعات مستمرة وما نتمناه هو أن نرى دولة مدنية حديثة تليق بالتضحيات حيث ضحت اليمن بخيرة شبابها قرباناٍ للوصول لهذه الدولة..