مركز أورام السرطان “الوحيد”… معاناة مزدوجة


■ تحقيق / هشام المحيا –
الصحة العالمية: 20 ألف يمني يصابون بالسرطان سنويا يموت منهم 60%

مرضى: السرطان يقتلنا وتكلفة جرعات العلاج تفوق إمكانياتنا

22 أخصائياٍ و53 سريراٍ وجهاز إشعاع جل ما يمتلكه مركز الأورام الوحيد

مدير مركز الأورام : نحن بحاجة إلى فروع بالمحافظات وأسرِة وكادر وأجهزة وأدوية وما نحصل عليه من الدعم الحكومي لا يغطي سوى10% من الاحتياج

لن تتأثر كثيراٍ .. وربما سيكون الأمر لديك سيان “لافرق” وأنت تقرأ قصص أناس انعطفوا بحياتهم إجبارياٍ باتجاه طريق الرحيل المفجع مهرولين إلى الموت القادم من ثنايا الأقدار المخفية “مبتعدين عن دفء أحضان أهلهم ومحبيهم بعد أن أصيبوا بمرض لطالما نجح في غرس أنيابه في نحور الكثير والفتك بهم فكيف لو كنت أنت أحد هؤلاء -لا سمح الله-¿ بالتأكيد سيختلف الوضع وسيختلف أكثر عندما تعلم أن هؤلاء باتوا يعدون الثواني والدقائق ينتظرون ذلك الموعد بعد أن شعر الكثير منهم بأن أملهم في الشفاء قد ذاب بين رحيق فقرهم وشحة إمكانيات المركز الوحيد لعلاج السرطان في اليمن والذي كان قد مثل لهم بتأسيسه عام 2005م بارقة أمل ..
في السطور التالية تلمسون فضاعة الجرح الذي يقاسيه مرضى السرطان في اليمن في الوقت الذي يعاني مركز علاج الأورام السرطانية الوحيد باليمن من شحُ كبير في الإمكانيات بسبب قلة الدعم الحكومي وغياب دور المنظمات الداعمة في هذا الجانب.

عِلموا بأن الموت حق وتيقنوا أن السرطان من أقصر الطرق المؤدية إليه فارتضوا بأقدارهم وأسندوا ظهورهم على فرشهم ينتظرون لحظة الوداع وحتى لا يوسعوا دائرة الجراح وسط ذويهم وأهليهم قرروا حبس دموع ما قبل الرحيل غير أن الألم الفضيع الذي ينهشهم بين الفينة والأخرى يجبرهم على فتح محاجر أحزانهم لتسقيها دموع الموت المكبوتة ويزيد من غزارة تلك الدموع حينما يتذكرون أن عجلة الزمن تمضي بخطىٍ متسارعة نحو الرحلة الأخيرة ـ حقاٍ ـ سيرحلون وإلى الأبد وعلى إيقاع أصوات أطفال وأحباب تخنقهم تقاطيع الفجيعة وهم يصطرخون في الغالب “أبي أمي ” فهم يعلمون جيدا أنهم بعد رحيل هؤلاء من بينهم سيحشرون أنفسهم في زوايا الوحدة.
هذه القصص المأساوية الممزوجة بتلاوين الحزن ليست لعدد يسير من الناس بل للآلاف من اليمنيين إذ يصاب بالسرطان سنوياٍ حوالي عشرين ألف مواطن يمني وفقاٍ لتقارير منظمة الصحة العالمية ومما زاد من يقينهم بقرب موعد رحيلهم أن السرطان يقتل سنوياٍ حوالي 12 ألفاٍ وبنسبة 60 % من إجمالي المصابين سنوياٍ.
خطوة إيجابية
قبل العام 2005م كانت الإصابة بمرض السرطان يعني الموت القريب المحقق الذي لا ريب ولا جدال في توقيته إذ أن علاج السرطان يعني أن يملك المصاب ميزانية كبيرة للحصول على الجرعات العلاجية من جهة وشراء الأدوية الباهظة الثمن من جهة أخرى وهو الأمر الذي لا يحسن غالبية اليمنيين صنعه .
لكن بعد هذا التاريخ ظهر بصيص أمل للتداوي من المرض بعد أن تبنت الدولة بناء مركز متخصص لعلاج الأورام السرطانية ومقره صنعاء داخل سور المستشفى الجمهوري ويعرف هذا العنوان جيدا كلْ من لدغه السرطان وقد جاءت هذه الخطوة عندما تزايدت نسب المصابين بالسرطان بعموم محافظات الجمهورية وخصصت الدولة لهذا المركز ميزانية تشغيلية مستقلة ورفدته بأطباء أخصائيين وأطباء عموم وفنيين وعدد من الأجهزة إشعاعية وغير إشعاعية وأدوية خاصة لمعالجة المرض.
التمرد على القدر
لقد كان إنشاء هذا المركز بمثابة شماعة الأمل التي أخرجت مرضى السرطان من دائرة اليأس ليعلنوا بذلك التمرد الصارخ على أقدارهم فارين من الموت فانطلقوا بخطى واثقة من كل محافظات الجمهورية نحو المركز الوحيد في وطنهم والذي يعد النافذة الوحيدة التي يأتي منها أمل إخراج أقدامهم من أبواب القبور التي كانت تتهيأ لموعد قدومهم.
الأمل المفقود
جميلة حيدر من محافظة الحديدة أم لخمسة أطفال جثم سرطان الأمعاء على حياتها في العام 2009م ونظراٍ لفقرها المدقع جعلها المرض ملازمة للفراش ولأن السرطان لا يفهم معنى أن تكون معدماٍ فقيراٍ لا تمتلك حتى قيمة حقنة مهدئة فقد كان الألم لا يغفل عنها لحظة واحدة لذا قررت العائلة أن تبيع ما تملك كي توفر مصاريف السفر إلى صنعاء وبالتحديد إلى مركز الأورام السرطانية لعله يهدي لها حياتها مجدداٍ ليس لأنها تريد ذلك لنفسها بل لأجل أطفالها لا غير أما هي فقد أوغل بها شظف العيش إيلاماٍ..
انطلقت جميلة صوب صنعاء تاركة الموت خلف ظهرها وأمل الحياة يسابق خطواتها غير أن الأمر لم يكن مثلما توقعته فالناس هنا في مركز الأورام يومياٍ كما هو الحال في طوابير البريد نهاية كل شهر حتى أنها توقعت أن المرضى اليمنيين كلهم هنا ولم تجد تفسيرا منطقيا لهذا التوقع وبعد لحظات التعجب هذه حاولت جميلة الحصول على إرشادات حول الإجراءات التي تسبق علاجها فانتهى اليوم وهي ما زالت في مرحلة البحث بعدها استمرت فترة وهي تكافح من أجل الحصول على الفحوصات الأولية التي ستحدد ماذا تحتاج من جرعات علاجية بعدها احتاجت فترة أطول من الأولى لعمل جهاز الإشعاع الذي كان الأطباء قد قرروه لها وبعد جهدُ جبار حصلت على بعض الأدوية التي قْررت لها فيما بقية الوصفة الطبية الأغلى كانت مهمة شرائها عليها عادت المسكينة إلى أدراجها بالحديدة وبعد أشهر أدركت -كما أدرك غيرها- أن أحلامها في الشفاء من المرض قد ذاب بين رحيق فقرها وشحة الإمكانيات بالمركز وكأن شيئاٍ من تلك الرحلة إلى المركز لم يحدث فالعلاج انتهى والمبالغ التي تمكنها من شراء العلاج وإجراء الجرعات العلاجية غير موجودة والتي تتجاوز 200 دولار “43 ألف ريال يمني” لكل جرعة فاضطرت إلى الاستسلام لتلابيب المرض حتى يأتي وقت الرحيل وقصة جميلة ليست الوحيدة فالأغلبية المطلقة ممن أصيبوا بالسرطان مروا بذات الطريق.
الواقع التعيس
في الزيارة الميدانية التي قام بها كاتب التحقيق إلى مركز الأورام السرطانية لاحظ أن المركز يعاني من ضغط شديد للغاية وشحة كبيرة في الإمكانيات سواء في عدد الأخصائيين أو أطباء العموم أو الأجهزة الإشعاعية وغير الإشعاعية أو الأدوية أو الأسرة. فالمركز منذ تأسيسه لم يحظ بأي من عمليات التطوير والتوسيع أو التحديث باستثناء زيادة بسيطة في عدد الأخصائيين الذين وصل عددهم إلى 22 أخصائياٍ بعد أن كانوا في السابق بعدد 12 أخصائياٍ وبرغم هذه الزيادة يستقبل الأخصائي الواحد منهم يومياٍ من 35 إلى 40 حالة وهو الأمر الذي نتفرد به عن بقية دول العالم التي لا يستقبل الأخصائي فيها أكثر من خمس حالات في اليوم الواحد حتى يتمكن الطبيب من تحقيق نتائج علاجية ملموسة.
أما باقي الأشياء فهي كما كانت فعدد الأجهزة الإشعاعية اثنان والأسرة 53 سريراٍ والأدوية بعضها متوفرة وبعضها يوكل أمر شرائها للمرضى وقد انعكس تواضع إمكانيات المركز على النتائج أو مخرجات المركز من حيث قدرته على استيعاب أكبر قدر ممكن من المرضى وكذا تحقيق نتائج ملموسة عند علاجهم فالمركز لم يستقبل منذ تأسيسه بالعام 2005م سوى 42 ألف حالة في حين تقول منظمة الصحة العالمية أن حوالي 20 ألف يمني يصابون بالسرطان سنوياٍ 60 % منهم يموتون وهذا يعني أن المركز لم يستقبل منذ العام 2005م من إجمالي المصابين سوى 19 % فضلاٍ عن أن المركز لم يحقق النتائج المرجوة في علاج المصابين بأمراض السرطان الذين استقبلهم منذ تأسيسه لأن النتائج بحاجة إلى مقدمات -كما تقول النظرية المنطقية- والمقدمات هنا شبه منعدمة.
الجواب من العنوان
منذ حوالي شهر ونصف وكاتب التحقيق يحاول الحصول على موعد للقاء مدير المركز الدكتور عفيف النابهي غير أن الرجل لا يفتأ أن يعود من وزارة المالية حتى يرجع إليها مرة أخرى ليتحول من طبيب إلى “مشارع” عن حقوق المركز الأمر الذي جعلنا نغلق جميع علامات الاستفهام التي كانت حول المركز وفتحها على وزارة المالية مؤخراٍ التقينا الدكتور النابهي وأراد أن يضع الكل أمام صورة واضحة عن المركز والمعاناة التي يمر بها فقال: “بداية أود أن أوضح أن المشكلة ليست في وزارة المالية بل مشكلة بلد بأكمله لكن بالمقابل يجب أن يكون لمرضى السرطان أولوية مطلقة في حسابات الدولة المالية فالسرطان ينتشر وسط المواطنين بأرقام مخيفة يأتي ذلك وسط شحة كبيرة في إمكانيات المركز فالدعم الحكومي الذي نحصل عليه لا يغطي من احتياجات المركز سوى 10 % وما نملكه حالياٍ شيء لا يشجع فالأسرة مثلاٍ 53 سريراٍ و22 أخصائياٍ وجهازي إشعاع لذا فالأمر يتطلب جهوداٍ كبيرة لتخفيف معاناة الناس أما إذا بقينا على هذا الحال فلن نتمكن من تحقيق النتائج المرجوة ونحن بحاجة إلى فروع للمركز في عموم المحافظات وبحاجة إلى أجهزة كثيرة إشعاعية ومخبرية وغيرها وكذلك نحتاج إلى كادر طبي إلى جانب الكادر الموجود وإلى أدوية خاصة بالمرض من أولها إلى آخرها وإلى توسعة في الأسرة “.
وعن ثمرة ذهابه وإيابه إلى وزارة المالية باستمرار يقول النابهي: “بعد جهود جبارة خلال الفترة الماضية استطعنا الحصول على جهاز إشعاع ثالث إلى جانب الجهازين السابقين سيصل ترتيبياٍ كما قمنا بتوسعة في عدد الأسرة بنسبة 83 % ومن منطلق المسئولية أدعو الدولة إلى إعادة النظر في مشكلة مرضى السرطان في اليمن” .
تغيب المنظمات
في وسائل الإعلام تجد أخبار المنظمات الخيرية تنافس الأخبار السياسية وفي الواقع ستجدها ــ رغم كثرتها ــ في حكم العدم وهو ما أكده لنا الدكتور النابهي الذي قال إنه لم يلمس تعاون أيُ من المنظمات العاملة في اليمن المحلية أو الدولية باستثناء تعاون محدود من منظمة الصحة العالمية والمؤسسة الوطنية لمكافحة السرطان ومن منطلق المسئولية للدولة يجب إعادة النظر مرارا وتكرار في ما يخص مرض السرطان فمركز الأورام السرطانية بوضعه الحالي لا يقدم ولا يؤخر في الوقت الذي يدخل مربع السرطان الآلاف من المواطنين سنوياٍ.

قد يعجبك ايضا