في يوم عمالة الأطفال..طفولة غزة المسحوقة تتحول إلى مشروع للبقاء

 

الثورة / متابعات

في غزة، لم تعد الكرة ولا الأقلام ولا ثياب العيد تُرمز للطفولة، بل باتت الحصى والعربات وآلات الفرم اليدوي أدوات نجاة يومية، يقبض عليها صغار هزيلة وجوههم، متشققة أيديهم، ويقضون أعمارهم المبكرة في العمل القسري بحثًا عن كسرة خبز. هؤلاء الأطفال لا “يعيشون” طفولتهم بل “ينجون” منها، في زمن تحوّلت فيه الطفولة إلى مشروع للبقاء.
على رصيف في سوق شعبي بخان يونس، قرب مركز إيواء بات يعجّ بالنازحين، يدير صبية لا تتجاوز أعمارهم العشر سنوات آلة معدنية بدائية لفرم الحمص. وجوههم غائرة من الجوع، أجسادهم نحيلة، وأصواتهم خافتة، تئنّ تحت وطأة الإنهاك. هنا، الطفولة ليست مرحلة عمرية، بل عبء ثقيل يُفرض على الكتفين.
فمنذ أن أطلقت إسرائيل حرب الإبادة على قطاع غزة في 7 أكتوبر 2023، كان الأطفال ولا زالوا في الصف الأول من الضحايا، فبحسب منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف)، استُشهد أكثر من 18,000 طفل في غزة، كما أُصيب عشرات الآلاف، بعضهم أصيب بإعاقات دائمة، وبُترت أطرافهم.
ووفق تقرير صادر عن مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، فإن أربعة من كل خمسة أطفال في غزة يعانون من اضطرابات نفسية حادة نتيجة الحرب، بما في ذلك اضطراب ما بعد الصدمة، والقلق المزمن، والفقدان الحاد للأمان الأسري.
يقول الطفل عبد الرحمن أبو جامع، من مدينة خان يونس بصوت مشبع بالمرارة: “قبل الحرب كنا نلعب ونضحك وننتظر العيد بفرح. اليوم نعمل كي لا نموت جوعًا”.
ويروي الطفل الذي بات معيل عائلته، كيف بات تحضير الفلافل في السوق مقابل دريهمات معدودة هو مورد العائلة الوحيد، بعدما تحوّلت نقاط توزيع المساعدات إلى مصائد موت.

حين تُستبدل المدرسة بالبسطة
في السوق ذاته، تجوب الطفلة حبيبة (8 أعوام) بين المارة حاملة ببسطة صغيرة تبيع “بسكويت رخيص” كما تصفه. تقول وعيناها تنطقان بالخذلان: “أبيع كي نشتري الطحين. الحرب أخذت كل شيء”، فيما لسان حالها يسألك “كيف صار الدقيق حلمًا؟ وكيف تحوّل اللعب إلى ترف؟!”.
مشهد يتكرّر مع الطفلتين نور وتالا، الأولى تدفع عبوات ماء على كرسي متحرك نحو مستشفى ناصر، والثانية تبيع بقايا طعام على طاولة أقامتها عائلتها بجوار ركام منزلهم المهدّم. لا مدارس، لا ألعاب، لا أمان، جميعهم يتقاسمون الفقد والخوف والحاجة، ولا يدركون شيئًا عن مفهوم اليوم العالمي لمناهضة عمالة الأطفال، الذي يحتفل به العالم في 12 يونيو كل عام.
وبحسب “اليونيسف”، فإن جميع أطفال غزة محرومون من التعليم بسبب تدمير كلي أو جزئي وتحول ما بقي منها لمراكز إيواء للنازحين، كما أن نحو مليون طفل باتوا يعيشون في فقر مدقع، محرومين من الحاجات الأساسية كالماء الصالح للشرب، والرعاية الصحية، والتغذية السليمة.
الطفل يامن القرا يجلس القرفصاء على الأرض، وبينما يعرض ملابس مستعملة على قطعة قماش مهترئة. يقول بهدوء يشي بالكِبر المبكر: “أبيع كي نشتري الطحين.. اشتقت لمدرستي، لحقيبتي، لضحكة أخي.”
أما الطفلة منة الشنباري، فتنهي مشهد السوق بنداء موجع: “يلا الخبز!”، وهي تجوب بين المارة بعيون تتفحص وجوههم لا بحثًا عن زبائن، بل عن خلاص.

الموت على أبواب المساعدات
ففي القطاع المحاصر من أقصى شماله إلى جنوبه، أصبح الخروج بحثًا عن كيس دقيق أو طعام معلب أشبه بالمقامرة، فمنذ 27 مايو، قتل جيش الاحتلال 224 شخصًا على الأقل وأُصيب أكثر من 1800 آخرين جراء إطلاق نار إسرائيلي وقصف مدفعي استهدف المواطنين المجوّعين عند نقاط توزيع المساعدات الأمريكية الإسرائيلية المزعومة.
تحوّلت المساعدات من رمز للنجاة إلى خطر محدق، وغدا الخبز أثمن من الذهب مع اتفاع فاتورة الحصول عليها، والفاتورة هنا لا تعني سوى الموت من أجل كيس طحين وزنه 25 كيلوا أو صندوق مساعدات مماثل، ما دفع بالمفوض العام لوكالة “الأونروا” فيليب لازاريني إلى وصف آلية توزيع المساعدات الأمريكية بأنها “ألعاب الجوع”، في إشارة إلى الفيلم الأمريكي الشهير. وتقدر الأمم المتحدة احتياج غزة من المساعدات بنحو 500 شاحنة لتغطية احتياجات المواطنين المفقودة من الأسواق منذ عامين.
وتشير تقديرات حقوقية دولية إلى أن نحو 88% من المنازل في غزة دُمرت كليًا أو جزئيًا، ما يعني أن كل طفل تقريبًا فقد بيتًا أو فصلًا دراسيًا أو أحد أفراد عائلته. ففي اليوم العالمي لمناهضة عمالة الأطفال، حيث يُفترض أن تُرفع الشعارات وتُطلق النداءات لحماية البراءة، يُدفن الشعار تحت الركام في غزة، حيث لا يعرف الأطفال الأعياد، لا يحتفلون بها، بل يذبحون تارة بصواريخ الاحتلال، وأخرى بسلاح الجوع، وثالثة بصمت العالم.

قد يعجبك ايضا