يبدو “الكيان الصهيوني” في ذروة أزمته الوجودية، ويسعى لمعالجتها وتجاوز تداعياتها الداخلية، في المضي قدما بسياسة الغطرسة التي اتخذ منها قاعدة –استراتيجية- إذ أوجدت معركة “طوفان الأقصى” أزمة مركبة للعدو، أحدثت شرخاً في مكوناته الاجتماعية والسياسية، ناهيكم عن الضربة التي هزت صورة ومكانة العدو داخلياً وخارجياً، فبدا الكيان الذي كان يعد العديد من الأنظمة في المنطقة بحمايتها، بدأ عاجزا عن حماية نفسه، فسعي لتجاوز أزمته، عبر رد فعل إجرامي متوحش، مغال فيه، ومتجرداً عن كل القيم والأخلاقيات الإنسانية، بما في ذلك “أخلاقيات الصهيونية” التي ظل هذا الكيان يسوقها على مدى سبعة عقود عن حريته وديمقراطيته، هذا من ناحية، ومن الأخرى حاول العدو استعادة هيبته وقوة ردعه، والمؤسف أن العدو، ورغم رد فعله الإجرامي، على ملحمة “طوفان الأقصى”، الذي لم يستثنى فيه طفلاً وشيخاً وامرأة ومدنيين عزل، حاول خلالها إعادة تكريس أسطورة ذهنية في الوعي الجمعي الفلسطيني والعربي والإسلامي عن قدراته الإجرامية، وإن بصورة هذا العدوان الهمجي، الذي حظي بتغطية دولية -أمريكية، فيما كانت واقعة ملحمة الطوفان قد أرعبت أنظمة -إسلامية، أجبرت على النأي بنفسها، بل دفع الخوف بعضها إلى إدانة المقاومة والتبرؤ منها ومما قامت به.
على ضوء ما حدث حاول العدو، إعادة ترسيخ فكرة استحالة قهره، وانه الكيان الأقوى في المنطقة وعلى الجميع أن يهابه، وأن من يفكر المس به بطريقة أو بأخرى، فعليه أن يتحمل عواقب ذلك بصورة دمار وتدمير وقتل دون تمييز بين المقاوم والمواطن، بين الشاب والطفل، بين الشيخ والمرأة، متخذا من قطاع غزة نموذجا ورسالة لكل من يحاول المس بهذا الكيان، وأيضا ما قام به ويقوم به في لبنان وسوريا، وما قام به في اليمن يوم استهدف المنشآت النفطية في ميناء الحديدة حين قال وزير الحرب الصهيوني: “إن على سكان الشرق الأوسط أن يتابعوا السنة النيران، وهذا سيكون جزاء كل من يستهدف أمننا”.
رد فعل العدو فشل بعد كل هذا الوقت من عدوانه، على غزة وفشل في تحقيق بنك أهدافه، في استعادة الأسري لدى المقاومة، وفي القضاء عليها، ونزع سلاحها، والسيطرة على قطاع غزة.
غير أن أصعب ما واجه نتنياهو هو تصادم مصالحه الشخصية، مع مصالح كيانه وطبقته السياسية من ناحية، ومن الأخرى فتور علاقته مع أدارة دونالد ترامب التي تتبع سياسة معاكسة لرغباته، نعم إدارة ترامب تدعم الكيان وتحميه، وتقدم له كل أشكال الدعم والإسناد، لكنها لن تقدم الدعم لشخص نتنياهو، وقد صدر هذا عن الرئيس ترامب الذي قال صراحة” لن ندفع المليارات كي يبقى نتنياهو في السلطة.
أضف إلى ذلك اتفاق ترامب مع صنعاء دون رضا نتنياهو وكذا ذهاب ترامب في مفاوضات مع طهران دون رغبة نتنياهو، الذي كان يعشم نفسه خاصة بعد تحييد “حزب الله” وتنصيب حكومة ورئيس في لبنان وفق رغبة واشنطن، وإسقاط النظام في سوريا وكل هذا خدمة للكيان، غير أن نتنياهو حاول تجيير كل هذه المكاسب باعتبارها منجزات شخصية، حققها هو، وحاول توظيفها للتغطية على فشله وحكومته في “السابع من أكتوبر”، ثم فشله في تحقيق أهدافه في العدوان على قطاع غزة الذي ارتكب فيه ابشع المجازر وجعلها حرب إبادة جماعية وجرائم حرب، قوبلت بإدانات شعوب وأنظمة العالم، بما في ذلك من كانوا يعدون حلفاء ومقربين من الكيان، الذين بدأوا يتحدثون بجدية عن حل الدولتين والاعتراف بالدولة الفلسطينية.
لذا نشاهد إيغال العدو في ارتكاب الجرائم في، غزة، ولبنان، وسوريا، واليمن، والتعاطي بعنهجية وغطرسة مع العالم، والتهديد بضرب إيران وكل هذا محاولة من نتنياهو للهروب إلى الأمام، من أزمته الداخلية، ورغبة منه في إحراج واشنطن وإدارة ترامب فبدأ نتنياهو تجاه ترامب وإدارته، وكأنه ذاك الأبن العاق الذي يحاول أن يحجر على والده إن لم يمنحه هذا الوالد الصلاحية المطلقة في الإدارة وفرض هيمنته، على المنطقة ودعمه في تحقيق رغباته، وأن كانت تتعارض مع مصالح الوالد، الذي يدرك يقيناً مغامرات وطيش ولده وأن ما قد يقوم به سيقودهم إلى كارثة مدمرة.
أزمة المنطقة وتداعياتها، وأزمة الصراع الجيوسياسي، أزمات انتقلت إلى داخل إدارة ترامب بدءاً من أزمة الثقة والعلاقة المفاجئة التي تفجرت بين ترامب وصديقه الأقرب والأقوى “ماسك” التي تفجرت بصورة فضائح مثيرة، إلى أزمات داخلية متعددة، سياسياً، واقتصادياً، واجتماعياً، أخذت تفرض نفسها داخل المجتمع الأمريكي، الذي تشير كل المعطيات إلا إنه يتجه ليتماهى مع أي مجتمع “عالم ثالثي” حيث العنف والمظاهرات وأحداث الشغب، وتضييق الخناق عن الحريات، وفيما تفتح دولة مثل الصين -الشيوعية والنظام الديكتاتوري حسب توصيف أمريكا والغرب، أبوابها لكل مواطني العالم، تغلق أمريكا عاصمة العالم الحر أبوابها أمام المهاجرين، مع أنها دولة مهاجرين ورئيسها ينحدر من أسرة مهاجرة، الأمر لا يتوقف هنا بل طال مراكز التعليم والجامعات، فيما صورة أمريكا خارجيا ليست أكثر حظاً من صورتها داخلياً، فالعنصرية التي تعيد نسج خيوطها داخلياً، تزداد بشاعة خارجيا بصورة تبدو وكأن شمس أمريكا تتجه نحو الأفول.