
الطائرة تراوغ المدرج مطلقةٍ أجراس الشوق نحو الأعالي وبيننا والإقـلاع دقائق فقط إنها اللحظة التي انتظرتها كي أنتقل إلى مقعد جوار النافذة حيث يوجد ثلاثة مقاعد فارغة بعد فاصل الدرجة الأولى وهو المكان الذي تمنيته.. أشرتْ لها مستأذنا بالانتقال لكن تلك المضيفة الرشيقة ذات الابتسامة الواثقة أومأت لي بصرامة قائلةٍ بيدها وابتسامتها: ” بعد الإقلاع”.. اتجِهِتú في المِمِر الفاصل باتجـاه مؤخرة الطائرة.. أطلقتْ حزام الأمان من خصري وانتقلتْ إلى المقعد جوار النافذة في حركة خفيفة.. كل هدفي أن أستطلع مطار الدوحة الدولي وأنا أبتعد عنه ارتفاعاٍ على متن القطرية العملاقة.. تمتمنا دعاء السفر وتماسكنا لبرقُ في جوانحنا حين رفِتú أجنحة الطائرة مفارقةٍ الأرúض صافحنا الارتفاع ولفتِنا الدهشة بثوب التأمل من فوق السحاب.. استقام المسار واتجه أسطولنا الجوي بعزمُ وسلام صوب قلب الصين العظيم “بكين” إحدى أهم العواصم عالمية..
ثماني ساعات من العزيمة والطيران المتواصل فوق الغيوم كانت الرحلة ممتعة وطائرة القطرية تغازل خطوط التماس التي تتداخل فيها آية الخالق “عز وجل”.. : (ولوج الليل في النهار وولوج النهار في الليل).. مسافةَ كفيلة بمنح المسافر فْسúحِةٍ للقراءة والاطلاع والتأمْل حيث كل راكب منشغل بهواجسه وسفره لكن الأهم هو أني على شوقُ كبير لأرى بكين من الجو أثناء الهبوط التدريجي والتحليق ليلاٍ..
دخلنا أجواء خارطة الصين لنتجه صوب الطرف الشمالي من سهل شمال الصين الواسع حيث تتمدد بكين بين سِهúلُ منخفض تحيط به الجبال من الغرب والشمال والشرق فيما تنبسط في جنوبه الشرقي سهولَ فيحاء يسودها المناخ القاري للمنطقة المعتدلة وتتباين الفصول الأربعة فيها فربيعها قصير وصيفها ممطر ورطب وشتاؤها بارد قارس وطويل فيما الخريف أفضل وأجمل فصولها مناخاٍ. إنها أكبر المدن الصينية مساحة وحركة حضرية ومركزاٍ سياسياٍ وثاني مدن الصين سكاناٍ حيث يسكنها اليوم ما يقارب الـ(20) مليون نسمة بعد أن كان عددهم في عام (2000) نحو (14) مليون نسمة مقابل (2,09) مليون نسمة في عام 1949م عام إعلان بكين عاصمةٍ لجمهورية الصين الشعبية على يد قائد الثورة الشيوعية الصينية ماو تسي تونغ..
خارطة الضوء.. عالم الصين
على بْعúدُ جوي كبير كانت بكين تبدو لوحةٍ عملاقة وخارطة يرسمها الضوء بشكل متناهُ في الجمال إنها المدينة الأكثر تحرراٍ من العشوائيات الحضرية في العالم فهي مخططَ حضري على الطريقة العالمية (المربعات).. لكن عصريِتِها لم تمنع من حفاظها على خصوصيتها التاريخية القديمة.. فقد اهتم الصينيون بحماية المدينة القديمة الأساسية والمدينة المحرمة (25) حيِاٍ سكنيا تتميز بالقيمة التاريخية والثقافية الممتدة على (62) كيلومتراٍ مربعاٍ.. وتشكل المساحة المحمية 37% من مساحة المدينة القديمة ببكين التي اتجهت إلى نقل المؤسسات الصناعية والأحياء السكينة المعاصرة إلى داخل الطريق الدائري الرابع وإلى خارجه تدريجيا وفق مبدأ “التوزيع الجماعي” فأنشئت (10 ) مجمعِات سكنية في الضواحي و(14) مدينة محيطة ببكين يمكن أن يسكن في كل منها (250- 400) ألف نسمة..
كانت الطائرة تحلق بنا انحداراٍ ولمسافة طويلة فقط على معالم المدينة المدهشة التي تتلألأ أضواؤها تحت أسطولنا الجوي من ارتفاع قريب لا يتجاوز (12) ألف قِدِمú إنه مخططَ عملاق بتقسيمات واسعة النهضة العمرانية الحديثة حيث تشير التفاصيل الفنية لتقسيمات بكين المعاصرة ومجمعاتها السكنية العصرية التي من أبرزها منطقة التجارة الدولية المركزية (CBD) في حيِ تشاويانغ بجوار منطقة السفارات وفيها مراكز للمعارض والمؤتمرات وشاهقات الفنادق والمساكن ومرافق الثقافة والتسلية وأجهزة البحوث والتطوير والمكاتب التمثيلية والمقرات الإقليمية لكثير من الشركات المتعددة الجنسيات.. إذ تجاوز عدد الأجهزة التمثيلية لدوائر الأعمال الأجنبية في “بكين” (9500) جهاز.. كما تْعِد هذه المدينة المشعْ ضوؤها بخارطة الأفق مركزاٍ معاصراٍ هاماٍ للعلوم والتكنولوجيا حيث تقع فيها حديقة تشونقوانتسون للعلوم والتكنولوجيا الأكثر كثافة من ناحية موارد الذكاء والعلوم والتكنولوجيا في الصين..
كنت أتأمل المخطط في الشاشة أمامي أو من النافذة أحياناٍ وأحدث نفسي مسترجعاٍ هذه المعلومات -التي قرأتها عن بكين قبúل الزيِارة- فيما الطائرة تقترب من ذلك المخطط الضوئي العملاق وعلى إيقاع أجراس الهبوط المعتادة.. ليست أضواء ساطعة حد الإزعاج كما في بعض مدن الشرق إن تعريفها الأقرب لا يخرج عن كونها أضواء اقتصادية بحتة لمدينة عالمية أدركِتú مفاتيح استغلال الطاقة بشكلها الطبيعي والمْرِشِد استهلاكياٍ..
هذه المواصفات إضافة إلى تاريخها العريق الذي يمتد إلى آلاف السنين جعل من هذه المدينة المعاصرة القلب الذي يضخ دماء التِقِدْم والعمل السياسي والدبلوماسي في جسد الصين العظيم الممتدة خارطة دولته على (9 ) ملايين و(600) ألف كيلو متر مربع بحدودُ تشافه أطراف (14) دولة برية و(8) دول بحرية.. بتعداد سكاني يقترب من مليار وأربع مئة مليون نسمة يتوزعون على (4) بلديات مركزية و(23) مقاطعة و (5) مناطق ذاتية الحكم ومنطقتين إداريتين..
صورَ تتداعى وواقع مْدúهش
في الثْلْث الأخير من الليل هبطت الطائرة في مطار بكين الجديد الذي أقيم في منطقة داشينغ جنْوبي العاصمة على مساحة (40) كلم ليستوعب (130) مليون مسافر سنويا فهو – حسب المخطط الهندسي- يحوي (9) مدارج يبلغ طول كل منها 4 كيلومترات.. إنه المطار الأكبر والأضخم والأطول في العالم إذ لايزال العمل فيه جارياٍ حتى اللحظة فيما تؤكد المعلومات أن 50 ألف عامل وموظف ومهندس يعملون في هذا المطار الذي يتوقع إتمامه في 2017م ليستوعب (1600) رحلة إقلاع وهبوط ورْبúع مليون مسافر يوميا..
في المطار كانت الصور الذهنية المصدومة بمخطط الضوء الساحر تتجلى تداعياٍ واقعياٍ لتكون أجمل وأرقى بكثير من الصور التي خلتها وأنا أقرأ عن الصين ونهضة دولتها الحضارية والمعاصرة وثقافة شعبها العريق.. مطار واسع وقبة لا أدري كيف ومن أين بدأ تصميمها المذهل وكل ما أحسست به أننا نتنقل تحت سماء صغرى نمشي حتى نتعب لننطلق على سحابات أو قطارات صغيرة توúصل بين تقاسيم المطار لا أحد من السيل البشري العارم (فتيان وصبايا في الأغلب) مشغولَ بغير عالمه التكنولوجي (الهواتف الآي باد والنوتا آي فون) وأشكال لا أفقه شيئاٍ عنها.. كلَ صِامَ أذنيه بسماعات تتدلى أسلاكها الرفيعة تحت الشعúر المنساب والجميل لجمهور الصبايا والشبان الصينين.. عندما أحسست أني الوحيد انظر إلى وجوه ذلك السيل العرم حد إحساسي أن هذا التنوع والكم الهائل من الوجوه المتقاربة في العمر قد تضرب الذاكرة شغلت نفسي بالحديث مع الدكتور عبد الله الشامي – أستاذ التخطيط التربوي بجامعة صنعاء والزميل علي الخيل من وكالة سبأ.. إنها الغربة في بلد المجتمع الإلكتروني..
داهمتنا الرهبة ونحن ننتقل بالقطارات أحياناٍ والممرات السحابة أحياناٍ أخرى في مطار خلته لا ينتهي وأصابنا الدْوار فقد أضنانا التنقل في المطار ونحن لا ندري أين سنرى أحدا يستقبلنا.. لوحات ورقية ويافطات كرتونية كتب عليها أسماء بمختلف اللغات لفت انتباهي امرأتان كبيرتان في السن وهما الوحيدتان في هذا السن أتذكر أن إحداهما كانت معنا في الطائرة والأخرى تستقبلها ربما هي قريبتها لكن مشهد الدموع التي تنساب على خدود تلكما القريبتين ونظرات كل منهما تتفحص باستغراب تحولات ملامح الأخرى -إنه العمر يمضي كما تتسارع نهضة الصين من عامُ لآخر-.. لحظتها
وفي زحام استقبال البشر لذويهم لمحت لوحتين ورقيتين تتِحدان في الحجم كتبتا باللغة الإنجليزية تحملهما فتاة وشاب صينيان كتب عليهما أسماؤنا الثلاثة وقوائم أخرى مع الفتاة والشاب كتبت عليها أسماء بعض الأشقاء العرب باللغة الإنجليزية..
محشرَ من البشر مختلف الألوان في الثلث الأخير من الليل يجعلون مطار بكين وكما لو أنه ينصهر في عز الظهيرة ما الذي أمطرهم إلى هذا المكان القصي من الشِرِق..¿ وأين يذهبون..¿ وما سر الجمال الصيني المصبوغ بمسحة إنسانية لا حدود لها…¿
إن هذا البلد العملاق في عالم الشرق والغرب مجبولَ على أرقى قيم الإنسانية ففي حضنه الأخضر تتعايش (56) قومية يا لها من مفارقات تدل العالم على سر نهضة الصين وإلى معنى وجود الدولة الراعية.. فمن أول وهلة أدركت أن الصين على الدوام تسعى بنجاح لضخ الحيوية والدماء الجديدة في عروق التواصل الانساني والحضاري بين الأمم والشعوب ناشرةٍ ثقافة السلام والفكر الإنتاجي والعمل التنموي وفق استراتيجية الصعود السلمي.. لقد تجلى ذلك -بلا مبالغة- ولمستْه في كل اتجاه وأنا ضمن وفد الشباب العرب خلال الفترة (23-30/11/2013م) والذي نظم مراسيم استقبال زيارته الثانية وفعاليات برنامجه الثري منتدى التعاون العربي الصيني..
بكين.. مناطق الزمن الثلاث
التخطيط والإبداع في التواصل وفق خيوط الربط بين مناطق الزمن الثلاث الحاضر والماضي والمستقبل إنها ميزة صينية وبصمة لا تتكرر في عالم اليوم وهي أبرز خطوات الصين في درب الحلم الصيني حلم الوطن/ الأمة.. لمست هذه المعاني حين بدأتú طقوس زيارتنا وفق تخطيط ينطلق من الماضي ويربط تراكم تجاربه بإبداع الحاضر الواقعي مستشرفاٍ بهذا المزج أفق المستقبل.. فقد كانت محطتنا الأولى من الزيارة أداة صادمة لمعنى الحضارة في مخيلتنا كعرب فربطت هذه المحطة بين عْمúق الماضي الصيني العظيم وخارطة الصين في القرن الحادي والعشرين- من خلال وجهتنا الأولى إلى القصر الامبراطوري (الملكي) حيث البصمات التاريخية لسلسلة من الأسر الحاكمة المتعاقبة وثقافتها وتراكمات التجارب البنيوية المختزلة في قصر ملكي واقعه المدهش هو الفارق بينه والأساطير العتيقة لقصور الملوك الغابرة.. والمقام هنا لا يتسع للخوض في تفاصيل عالم هذا القصر لكن ما لفت انتباهنا واستفساراتنا هو ثورة التلاقح الثقافي والعقدي والحضاري الواضح في الرسوم التشكيلية والخطوط التي اقترب بعضها من الخط العربي فأفادت الإجابة المفندة لهذا التلاقْح أن إحدى الأسر التي حكمتú في الصين كانت مسلمة, في العصور الإسلامية الأولى التي شهدت تطور طريق الحرير المارِة بأواسط آسيا وطريق البخور والطريق البحري الآتية من جنوب شبه الجزيرة العربية..
الشعب يختار شكل النهضة
وبعد تكوين الصورة الذهنية عن البعد التاريخي أقلع بنا الطاقم الصيني النشيط التابع لوزارة الخارجية الصينية إلى زيارة أهم معـالم العظمة الصينية في القرن الحادي والعشرين.. إنه الاستاد الرياضي العالمي “عش الطائر” الذي يشكل ثمرةٍ لتراكمية الإبداع في مسار نهضوية المجتمع الصيني.. في ساحته يتحرك الصينيون فتية وصبايا يوزعون ابتساماتهم ويحيْونك بلغتهم هدفهم الوحيد والأجمل إقناعك بشراء شيء ما أو التقاط صورة أمام “عش الطائر” العملاق الذي أوقفتنا الدهشة كعصافير على أبوابه في جو غروبي ساخن برهبة المكان رغم الثلوج التي تتساقط في شتاء بكين.. إنه علامة فارقة في تاريخ الرياضة الصينية والدولية.. لقد خصِصت بكين خلال 2001- 2005م 23 مليار دولار أمريكي لتطوير وتوسيع بنيتها الخدمية الشاملة استعداداٍ للعام 2008م ودورة أولمبياته العالمية التي استقبلتها بكين بـ 32 ملعباٍ وصالةٍ رياضيةٍ حديثة النشأة.. منها 8 ملاعب جديدة و24 ملعباٍ قديماٍ تم إصلاحها وترميمها..
يروي الصينيون أن فكرة “عش الطائر” جاءت ببساطة فهو تعبير عن طبق طعام صيني تقليدي غالي الثمن يْعد من مكونات نادرة ويتطلب تحضيره كثيراٍ من الجهد والوقت كما هو وكر الطائر المبني من القش والحشائش الرفيعة.. لكن ترجمتها على الأرض تقتضي ارتفاع المبنى -الذي سيقام – على قطعة من الأرض وسط حديقة بكين الأولمبية شمال العاصمة وبقدرُ يكفلْ إعطاءه مهابةٍ تلفت نظر الزائر وعقله أيضاٍ.. إنه المعنى الأدق الذي شاهدنا مهابته وكما لو أن البشر في ساحاته أشبه بالنمل.
لقد عكس هذا المبنى الضخم الانفتاح الصيني على العالم وترويض التنوع لخدمة عْمúق التراث الصيني.. أما قصة نشأته فقد بدأت في عام 2003م عندما تم الإعلان عن مسابقة هندسية للمعماريين حول العالم لتصميمه بإشراف لجنة دولية انتهى دورها باختيار (44) تصميماٍ ليتولى الشعب الصيني – وعبر التصويت- اختيار واحد من هذه التصاميم النادرة التي قْدمت في معرض مفتوح لعامة الصينيين في تجربة هي الأولى من نوعها في العالم.. ليذهب أكثر من نصف الأصوات لمصلحة تصميم قدمِته شركة سويسرية – متخصصة في الهندسة والاستشارات المعمارية الدولية- على شكل “عش الطائر” الذي سيبلغ عرضِه (280) متراٍ وطوله (333) مترا ويقوم تجويفه على أكبر ملعب في العالم ليتسع لـ(100) ألف متفرج.. ولأن إنشاء هيكل بهذه الضخامة يتطلب مواصفات خاصة اهتدت الشركة المنفذة إلى ضرورة استخدام أنابيب فولاذية ذات نوعية خاصة تم تصميمها بالتعاون بين الشركة المصممة والشركة المنفذة وتم تصنيعها محلياٍ في الصين باستخدام أيادُ عاملة محلية.
سْكان بكين يستعيدون بدهشة كبيرة تاريخ 24 ديسمبر 2003م حيث شرع (1100) لحِام صهر خط اللحِام الرابط بين كتله وبطولُ يتجاوز (320) كيلو متراٍ وعلى سنة وثلاثة أشهر فقط ورغم ضخامة هذا الحجم إلا أنه يقاوم زلزالاٍ مقداره (8) درجات على مقياس ريختر.. ليحرز هذا المعلم الترتيب الأول بين معالم الصين وفقاٍ لاستطلاع “بيجين نيوز” الصينية.. وصنِفِته “التايمز” البريطانية وهو لم يزل في طور البناء النهائي في 2007م ضمن أهم وأكبر (10) مشاريع في العالم وفي المركز الأول بين (100) تصميم هي الأكثر تأثيرا في العالم حسب تصنيف مجلة “التايم” الأمريكية 2008م..
السلوك الحضاري
وسط بكين حيث تتزاحم البنايات الناطحة للسحب تتداخل الأسواق بشكل منتظم لا يوحي بالعشوائية بينما الحركة اليومية لا تشهد صخباٍ أو فوضى رغم سيول البشر التي تتدفق من كل حدب وصوب وكلَ في مساره.. حتى الدراجات تتدفق في شوارع بكين بسلامُ وجمالُ يحاكي خلايا النمل النشطة حيث خصصت لها مسارات لا أحد يتجاوزها ولو بمجرد التفكير..
في الدول العربية عندما يخطئ أحدهم في السير يكون الشارع قد التفت بالكامل لينهر هذا المخالف فيشكلون أزمة لا تنتهي بالعراك في أغلب الأوقات بل بالاقتتال.. هذا هو الفارق بين العرب وسكان بكين حيث الكل يقف عند الإشارة وفي طابور الزحام حتى يمضي الذي قبله ولا أحد معني بأن يعلم غيره ما يجب فعله في الزحام وحده القانون سيد الجميع ومن لا يفهم القانون فوحدها الدولة من تعلمه.. حتى حفظ الصينيون عبر العقود المنتظمة كل مناهج إصلاح الذات قبل النظر إلى الآخر وصاروا لا يؤمنون سوى بشعار “نظم نِفúسِك” لتلتقي لدى الجميع ثقافة احترام الذات واحترام الآخر هذا ما لاحظته بعد خروجنا من أكبر الأسواق التي زرناها في بكين لا مجال لكبار السن فيها ولا الشباب مفتولي العضلات فمعظمهم في مناطق صناعية ومزارع إنتاجية فهي السواعد التي تبني.. كل ما في هذه المحلات التجارية البسيطة داخل مجمعات وأسواق رأسية يتجاوز بعضها عشرات الطوابق هو سيل من الصبايا المشتعلات نشاطاٍ فقد لاحظت الكثير منهن يعملن بمغازلُ يدوية لإنتاج الألبسة حتى وهن يتحدثن للزبائن… هذا هو المجتمع الانتاجي الغزير الذي يغزو العالم ليس بالقوة العسكرية والبوارج بل بالمنتج الاستهلاكي مؤمناٍ بأن هذا هو الطريق الأمثل للصعود السلمي..
كنت أنا والأستاذ فهد العجلان من المملكة العربية السعودية ومجموعة من الأشقاء البحرينيين والأردنيين كانت الساعة تقارب التاسعة مساء المحلات تنزل أستارها ولا مظاهر للأقفال والحاميات الحديدية بينما رجل الأمن أو سيدة الأمن بملابسهم الحضارية المميزة يحملون في عصيِاٍ قصاراٍ ونادراٍ ما ترى مسدساٍ مع ضابط أمن يسهر على حماية تلك الأسواق كنا منهمكين في الاطلاع على الأسعار والمبايعة بينما أحد الجنود يشير إلينا بعصا إلى أن الدوام انتهى استغربت عندما رأيت جميع من في السوق يجفلون إلى خارج محلاتهم في تمام الساعة التاسعة قال لي أحد الأشقاء العرب بعد التاسعة مساء لا يمكن أن تجد محلا فاتحاٍ فالكل يذهب لينام وفي تمام الثامنة من كل يوم تكون بكين كلها على موعدُ مع عودة البشر إلى أعمالهم بانتظام…
احترام الوقت والنظام والقانون والدولة الضابطة والحامية في كل مكان هذه سمات صينية معروفة بين الأمم ولمسناها في مسار الحياة اليومية في بكين ففي الخطوط العامة والاختناق المروري الذي تراه مد بصرك في شوارع مستقيمة وبجسور معلقة تتشابك في نظام متناهي الدقة ومهما بلغ الاختناق في هذه المسارات المرورية لا يمكن أن ترى فوضى أو أن أحداٍ يخرج عن خطه وزيراٍ كان أم رئيساٍ بل إننا لم نرِ مطلقاٍ مواكب رسمية صينية وسط بكين المدينة التي تنبض بحياة الصين السياسية والاقتصادية والدبلوماسية..
الكل يعمل بحواسه الخمس
زار وفد الشباب العرب الذي يزيد عن 60 شاباٍ- حينها- مركز موقع شبكة الصين الإلكترونية ودلف المركز على وتيرة عالية من الجدل العربي الجانبي المحموم بالسياسة ورغم ضجيجه لم أرِ أحداٍ يلتفت في صالة التحرير الإعلامي العملاقة ذات المواصفات والتقاسيم والتقنية الفريدة.. صالة مفتوحة كلها عامرة بشباب صينيين (فتيان وصبايا) وعرب وذوي جنسيات مختلفة بالمئات.. الكل يعمل وفي مستوى عالُ من الاهتمام والترتيب ولا يعنيهم أمر وضجيج أحد فالكل منهمك في عمله باستثناء المدراء الذين استقبلوا الوفد شارحين لهم كل قسم… إنه الموقع الأوسع والأكثر انتشاراٍ وكادراٍ وشمولية إذ تلتقي في هذا الموقع لغات عالمية لا حصر لها بما فيها اللغة العربية يزوره أكثر من (80) مليون زائر يومياٍ.. إنها الصين. تعمل ليلاٍ ونهاراٍ وفق خطط واستراتيجيات الإصلاح الشامل لمسار العمل السياسي والاقتصادي الصيني ومنها استراتيجية الحسم والتصميم الفوقي واستراتيجية التنمية والعزيمة القيادية محددة بذلك (15) مجالاٍ رئيسياٍ و(55) مجالاٍ فرعياٍ لعملية الإصلاح الشامل هذه الاستراتيجيات خرجت بـ(300) مادة من اللوائح والقوانين لضمان تنفيذ هذه الإصلاحات تدريجياٍ حتى(2020)م في كل المجالات.. وكل ذلك يدور في فلك الإطار العام لما يسمى باستراتيجية الصين العالمية المؤكدة على “سلمية الصعود الصيني” من خلال شعار صادق مفاده : “أن الصعود الصيني ليس خصما لمصالح أي قوى بل إضافة لتلك المصالح”..
mibrahim734777818@gmail.com