الثورة / خليل المعلمي
لم يشهد استشهاد قائد وبطل ومناضل اهتمامات العرب والمسلمين، بل والأحرار من جميع دول العالم –ربما في الوقت الحاضر أو الماضي- كما شهده استشهاد البطل يحيى السنوار- رئيس المكتب السياسي لحركة حماس.
لسنين عديدة غابت عنا مثل هذه الشواهد ومثل هذا البطل الذي كانت عملية استشهاده ملحمة تلهم العالم البطولة والنضال والتضحية من أجل الدين والمقدسات والأرض والإنسان.
وصية للأجيال
“إذا سقطتُ فلا تسقطوا معي بل احملوا عني راية لم تسقط يوماً، واجعلوا من دمي جسراً يعبره جيل يولد من رمادنا، لا تنسوا أن الوطن ليس حكاية تُروى، بل هو حقيقة تُعاش، وفي كل شهيد يولد من رحم هذه الأرض ألف مقاوم، إذا عاد الطوفان ولم أكن بينكم، فاعلموا أنني كنت أول قطرة في أمواج الحرية، وأنني عشت لأراكم تكملون المسيرة، كونوا شوكة في حلقهم، طوفانا لا يعرف التراجع، ولا يهدأ إلا حين يعترف العالم بأننا أصحاب حق، وأننا لسنا أرقاما في نشرات الأخبار”.
هكذا خطت يمينه قبل استشهاده وصية لا يكتبها سوى بطل مغوار، دافع عن وطنه ببسالة، لم يثنه سلاح وهو أعزل، ولم يضعفه قصف وهو جريح، ذاد عن أرضه حتى الرمق الأخير، فاستحق أن يخلد التاريخ بطولاته، وأن يصير اسمه أيقونة تتناقلها الأجيال.. ومن سواه يكون.. إنه “يحيى السنوار”.
حملات رثاء
وقد اجتاحت وسائل التواصل الاجتماعي حملات رثاء للشهيد المجاهد “يحيى السنوار” في مختلف أصقاع العالم وليس في العالم العربي فقط، تشيد ببطولة الرجل الذي وقف أمام أعتى كيان عرفته الأرض منذ بداية التاريخ وحتى الآن، نورد منها البعض:
في البرنامج الأشهر “فوق السلطة” يرفع الإعلامي نزيه الأحدب من شأن الشهيد السنوار، ساخراً من العرب المتفرجين على إخوتهم وهو يبادون:
لا تحدثني عن جيفارا -يهتف فتى فلسطيني- التقط العصا التي قاومت بما استطاعت نيابة عن أمة استطاعت ولم تقاوم.. فتحولت إلى رمز يعانق المفتاح والكوفية وشجرة الزيتون.
لا تحدثني عن جيفارا بل حدثني عن ثائر أسمر لفحته شمس المخيمات ورسمت تجاعيد وجهه غربة المعتقلات، حدثني عن ستيني شاب على فداء شب عليه، عن مقاتل ياسيني زاهد أخلص لقضيته فوق الأرض وتحت الأرض ومضى ليوم العرض بجسد خالدي كبن الوليد.. ليس فيه موضع أربعة أصابع إلا وفيه طعنة أو جرح أو كسر، لكنه لم ينكسر إلا لفقراء شعبه الذين ليس لهم إلا الله ثم دعاء المساكين ..
لا تحدثني عن جيفارا بل حدثني عن سيد سنوار لم يساوره اليأس حتى عندما ضُربت يمينه أدار العدوة اليسرى ولم يستسلم إلا نفساً راضية مرضية لبارئها.. حدثني عن صوت سمعه كل أحرار العالم من كل اللغات والثقافات والديانات بمفردات سهلة كالهواء هي مفاتيح لفطرة بشرية عمرية كريمة تأبى الاستعباد وقد خلقت حرة.
حدثني عن شجاعة كرارية خلعت أبواب الخضوع فأعادت لخيبر الخبر من مبتدأه.. حدثني عن أريكة محارب نابت عن عروش العرب فتحملت ملكاً شعبياً غير متوج على قلوب سليمة، وفي عقول ستحيا فيها سيرة يحيى الذي لم يمت، بل هو المرزوق عند ربه ونحن الأموات أمام الشاشات.
لا تحدثني عن جيفارا، بل حدثني عن أبي إبراهيم صانع الطوفان في زمن غثاء السيل، حدثني عن سبحة وصفحات أدعية تلا فيها دعائه الأخير.. “رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وادخلني برحمتك في عبادك الصالحين.”
لا تحدثني عن جيفارا –يهتف الفتى الفلسطيني ويختم- بل حدثني عن يحيى السنوار.
ظهور أسطورة
تقول إحدى تقارير قناة الجزيرة: قتلت إسرائيل السنوار ليخرج لها ظله قد يقتل المرء ولا يهزم، يغادر القول الشهير الكتب والأوراق إلى الواقع دماً وصوتًا وصورة، هناك في حي تل السلطان في رفح قتل الاحتلال غريباً وولدت مكانه أسطورة، كان يحيى السنوار هاجسهم، فهو قائد أول هجوم عربي يجتاز الحدود نحو الاحتلال، عام كامل وإسرائيل تسعى وراءه وتملأ الدنيا ومعها ألسن تنطق العربية أقوالاً وشائعات عنه وعن رجاله، ليشن في ظهوره الأخير طوفاناً يجرف الأكاذيب بعدما تسربت الحقيقة على غير هوى المحتل وتابعيه.
لم يكن يحيى السنوار مختبئاً ولا مرفهاً ولا خائفاً، لقد قضى على نحو فائق البطولة بقول إسرائيليين بدو أذكى من جيشهم، ما إن خرجت صور السنوار في مقتله حتى اكتسح الفضاء الجريح الملثم على مقعد من بيوت ناسه في غزة يدفع الطائرة بعصا، بدت آخر الأسلحة وآخر الطلقات أمام مئات الملايين في عيون الناشئين والصغار ممن لا ينسون ما يرون، تشكل الرمز في لحظات، أدرك الاحتلال سريعاً خطورة ما يستقر عميقاً في جذور النفس حيث موطن الإيمان والإرادة واحتمال أن يخلفه آلاف وآلاف صار لهم الرجل الحي قليل الحضور مثلاً أعلى.
كان يحيى السنوار مقاتلاً فوق الأرض والأرجح أنه يفعل ذلك منذ بداية العدوان، يرى كثيرون أن أشد ما يقلق إسرائيل اليوم هو امتلاء فراغ السنوار على ذلك النحو المدوي، بعد ما بدا تأثيره راحلاً أقوى حتى من وجوده، مثلما لم تؤدِ كل الضربات لرؤوس المقاومة إلى تفكيكها بل إلى اشتدادها.
في وجوه المتخاذلين
تقول إحدى الناشطات المصريات: لم يكن السنوار يحذف بعصاه على الكيان المحتل فقط، بل كان يحذفها في وجوه كل متخاذل وكل ساكت وكل متصهين عربي لم ينصره، بل ووقف ضده وخذله وخدعه، إن السنوار بطل يحفظ كتاب الله وأمضى ثلث عمره في السجن والباقي وهبه للجهاد في سبيل الله، وكانت نهايته كما تمناها.. ومن صِدق نيته أن العالم بأكمله شَهِدَ لحظات نهايته، وكيف كان أسداً ومقداماً حتى مع إصابته وحتى آخر نفس يرمي آخر حاجة معه وهي عصاه، مع نظرة حارقة وغاضبة تهد الدنيا بمن فيها.
لقد رأينا في هذا الرجل آيات ربنا على الأرض ورأينا بالصوت والصورة ماذا تعني العقيدة والثبات والرباط وحب الجهاد.
السنوار.. مصدر فخر
كتبت الناشطة الفلسطينية بيداء العولقي تصف ما تشعر به لحظة اغتيال القائد يحيى السنوار قائلة: استشهد في رفح في قلب المعركة بالصدفة، لا بالرصد ولا بالاختراق، اشتبك ولم يهرب، في رقبته كوفية، وبين يديه بارود، وفوق صدره جعبة حرب، صوره الأخيرة بیان ناطق، استقبل الرصاص في الجبهة والرأس، لا في الظهر ولا في الذراع، استشهد مقبلا غير مدبر، كما تمناها، سيأتي من يحل محله وسيكون أكثر عنادا.
فيما كتب الناشط أنس الجمل: هذه النهاية التي لم يكن يريدها نتنياهو وأرادها السنوار، لم يكن يريد نتنياهو أن يظهر السنوار بمظهر البطل، مرتديا زيه العسكري ومشتبكا مع جنود الاحتلال في الخطوط الأمامية في رفح، ولم يكن يريد أن يستشهد السنوار في اشتباك مفاجئ، بل كان يريد أن يغتاله وينشر صورة له لحظة إعطاء أمر الاغتيال، هذه الصورة سيحاسب نتنياهو الجنود الذين سربوها وستكون مصدر فخر وإلهام لشعبنا الفلسطيني.
زعيم وبطل
وقد خرج (اريك وارسو) وهو عسكري سابق في الجيش الأمريكي بفيديو يشيد بسيرة السنوار النضالية وينعه من خلال أداء التحية العسكرية له حيث يقول: السنوار زعيم حركة المقاومة الفلسطينية استشهد على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي، كان زعيماً للمقاتلين الفلسطينيين الذين يحاربون من أجل الحرية، لكنه كان أيضاً رجلاً جيداً جداً وذكياً، فقد أمضى 20 عاماً في سجون الاحتلال الإسرائيلي واكتسب شهرته من ذكائه وتفانيه في خدمة شعبه.
ويقول عن وسائل الإعلام الغربية إنها تحاول أن تلحق بالسنوار تسميات كاذبة وسيئة، فلا تصدقوا وسائل الإعلام ولا تسمياتها الخاطئة للأشياء، وسائل إعلامنا في أمريكا متأثرة كثيراً بإسرائيل في كل الأحوال هو بطل ومقاتل من أجل الحرية.. تحية لك ياسيدي.. ارقد بسلام صديقنا.
كما خرجت الناشطة الأمريكية تنتقد فيه الإعلام الأمريكي والإسرائيلي الذي حاول عبر عقود تشويه صورة الفلسطيني المدافع عن أرضه لصالح تلميع صورة الاحتلال.. وتقول: قالوا لي أيضاً إن قادة حماس يختبئون بين المدنيين ويستخدمونهم دروعاً بشرية ولهذا السبب -كما يقولون- اضطروا لتفجير كل مدرسة وجامعة ومسجد ومخبز في غزة، والآن اتضح أن قائداً تم اغتياله بينما كان بمفرده في مبنى ويده اليسرى مبتورة وهو يرتدي الزي العسكري يقاتل الاحتلال حتى الرمق الأخير من أجل تحرير شعبه.
هنا نرى تناقضات، عن ماذا كذبوا علينا أيضاً؟ لا أعلم ما الذي يعتقدون أنهم حققوه، عندما نذهب إلى صفحة ويكبيديا لعمليات الاغتيال التي نفذتها الدولة الزرقاء سنجدها طويلة.
شبيه الساموراي
وإلى الشرق فإن اليابانيين لم يغيبوا عن مشهد رثاء السنوار، فقد اجتاحت منصات التواصل الاجتماعي الرسمية والشعبية تغريدات استحضر من خلالها اليابانيون معاني البطولة التي يتمتع بها السنوار وشبهوه بمقاتلي الساموراي، فالساموراي يتمتع في الثقافة اليابانية بالفضيلة والتضحية والشجاعة الأبدية.
وانتشرت صور كاريكاتورية في وسائل إعلام يابانية تظهر الساموراي وهو يتوشح بألوان العلم الفلسطيني وقد تفاعل الجمهور مع هذه الصور.. ومن التعليقات المنشورة الآتي: “شرف الساموراي لا يكمن في مجرد الموت في المعركة، بل في التضحية بحياته من أجل الحق.. لقد ضحى السيد السنوار بحياته من أجل قضية فلسطين ذاتها، ونحن اليابانيون نعجب بأولئك الذين يموتون وهم يقاتلون من أجل الحق حتى النهاية، إنه ساموراي حقيقي، ويقول صحفي ياباني: “إن السنوار كان يرتدي الكوفية عندما كان يقاتل حتى آخر قطرة من دمه”، فيما يقول آخر: ” يحيى السنوار هو البطل الذي دفع حياته ثمناً لتأسيس الدولة الفلسطينية في المستقبل”.
رميته بعصا السنوار
يحيى السنوار.. آخر من أجادت أرض الأبطال من أبنائها، والذى صارت قصة استشهاده مضربا للبطولة، ومثلا عربياً، تزدان به اللغة، أضيف إلى الأمثال التي تنتجها الأحداث التاريخية، هكذا صرنا وصار الجميع يقول “رميته بعصا السنوار” وذلك دلالة على أن الإنسان حاول بكل ما يستطيع وبذل كل جهده، ويتماشى هذا المثل مع الكيفية التي استشهد بها رئيس حركة حماس يحيى السنوار، حيث ظل يقاوم قوات الاحتلال حتى أصيب وجلس على كرسي يلفظ أنفاسه الأخيرة، ولما اقتربت منه طائرة مسيَّرة ألقى عليها عصا كانت بيده رغم الهوان الشديد الذى اعتراه، بل صار اسم السنوار مضربا للبطولة والإقدام، حتى قلنا “هذا رجل سنوار”، أي بطل لا يهاب المستحيل.
ولأن اسم السنوار يرجع إلى اسم النار والإنارة، -حسب عدد من معاجم اللغة العربية- فلنا أن نتخيل ذلك الإلهام الذي أحدثه استشهاد يحيى السنوار.
هكذا صار مشهد يحيى السنوار الذي يقف فيه بعصاه في مواجهة المسيَّرة الإسرائيلية المتطورة مليئاً بالرمزية والتحدي، فالعصا في وجه المسيَّرة تعبر عن ثنائية الصمود أمام القوة الغاشمة.
تظل صورة العصا والدرون راسخة ومحفورة في عقول وأرواح الأجيال القادمة، لتراوح في أهميتها عصا موسى -عليه السلام، التي شقت بحر الأمة وزبده وابتلع بطوفانه جيش الكفرة المارقين، والواقع أن تاريخنا العربي، يحفل بأسماء عدة، أضيفت إلى سجله، إما في هيئة مثل يجري على الألسنة، أو بيت شعر تحول بكرور الزمن إلى قول مأثور، وتلك الأسماء والشخصيات إنما خلدت لصفة اشتهرت بها.