الثورة /
لم يكن يحلم الزعيم السياسي الأول للصهيونية ثيودور هرتزل حتى في خياله المطلق، أن يصبح اللسان العربي ناطقاً باسم الصهيونية، وكان أقصى ما يسعى له ومن حوله هو خلق قاسم مشترك ورواية واحدة يجتمع عليها المستوطنون اليهود في فلسطين المحتلة، ولكن يبدو أن بعض العرب قرروا أن يخالفوا حقيقتهم وتاريخهم وأن يكونوا صهاينة أكثر من الصهاينة اليهود، ففي حين يختلف المستوطنون أحيانا على الرواية الرسمية للاحتلال، يجتمع حولها بعض العرب وكأنها تنزيل وحي مقدس.
جاء طوفان الأقصى ليخلق شعوراً لدى المستوطنين بأنهم في معركة وجودية مع الفلسطينيين، وفي المقابل ليؤكد للفلسطينيين أنهم في لحظة فارقة وفاصلة من عمر قضيتهم. أما العرب، فإنهم وبحكم المصير المشترك والروابط القومية والتاريخية والدينية، فإن عليهم أن يكون شعورهم منسجماً مع شعور الفلسطينيين، خاصة وأن فلسطين قضية الكل العربي والإسلامي. وفي الحقيقة، لم يسمح الطوفان لأحد بأن يكون رمادي الموقف، وأدخل العالم والمنطقة في مرحلة استقطاب وفرز غير مسبوقين، وكانت المفاجأة واللامفاجأة أن بعض العرب، قرروا الاصطفاف إلى جانب الجندي الإسرائيلي، وإلى جانب الحلم الصهيوني بالقضاء على الفلسطيني وتهجيره.
قد يخرج من يقول ويتساءل: كيف يمكن لنا أن نكتشف هؤلاء المصطفين إلى جانب الاحتلال، رغم أن كل التصريحات العربية الرسمية رافضة لما يجري من مجازر. الإجابة ببساطة أنه في عالمنا العربي، وسيلة الإعلام هي اللسان الناطق باسم النظام السياسي وتمثل سياسته وتوجهاته السياسية الداخلية والخارجية، وهذا المعيار كاف لاكتشاف حقيقة المواقف بعيدا عن التسويق الممل للمواقف. وبنظرة سريعة وخاطفة على وسائل الإعلام العربية، نجد أن الإعلامين السعودي والإماراتي قد جنّدتا نفسيهما وكل إمكانياتهما في خدمة الرواية الإسرائيلية.
قناة العربية وملحقاتها أحد أهم مظاهر الاصطفاف في صف الاحتلال، فالقناة التي تحمل اسما مرتبطا بحقيقة المنطقة وتعريفها، تتبنى تعريفات الاحتلال الإسرائيلي للشهداء الفلسطينيين، فتطلق عليهم وصف: قتلى، وهو تعريف يسقط عن الشهداء قدسيتهم ويجردهم من المعاني الاستثنائية المرتبطة بقضيتهم والصراع مع الاحتلال، وهو تعريف في أفضل أحواله محايد سلبي. هذا يعني أن القناة تؤكد في رسالتها الإعلامية أنها لا تتبنى التعبيرات القيمية للفلسطينيين وترفض أن تكون جزءا من خطابها، وهذا تنكر واضح للقضية الفلسطينية كقضية عربية جامعة.
في المقابل، تتبنى قناة العربية تعريف جيش الاحتلال لنفسه، وتتبنى المصطلحات الصادرة عن مؤسسة الاحتلال الرسمية، فمثلا تطلق على جيش الاحتلال، وصف: جيش الدفاع الإسرائيلي، رغم أن ما يقوم به الاحتلال وجيشه في استهداف المدنيين والعزل لا يمكن توصيفه حتى في أكثر التوصيفات انحيازا، بالدفاع. كما تصف القناة، وزير حرب الاحتلال، بوزير الدفاع الإسرائيلي. وحتى عندما تحاول القناة وصف مجزرة بحق النازحين، تقول إن العمليات العسكرية الإسرائيلية مستمرة، وهذا توصيف لقتال شرعي له أهداف محقة، ولا تكلف القناة نفسها بوصف ذلك بالعدوان أو الاعتداء أو غيرها من الأوصاف التي تتناسب وحقيقة ما جرى.
وتبدو الإساءة للشهداء، نهجاً ثابتاً لقناة العربية؛ فهي لم تنقل الرواية الإسرائيلية حول استشهاد القائد يحيى السنوار، بل تبنتها. لكن الأسوأ من ذلك، أنها فتحت المجال أمام كتاب محسوبين على النظام السعودي، للطعن في الرجل الذي تحوّل إلى أيقونة للتحرر. فمثلا نشرت مقالا لخير الله خير الله، تحت عنوان “مجموعة مآزق تركها السنوار”. وفي الفقرة الأولى من المقال، يرد النص التالي: لم يعش يحيى السنوار رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” ما فيه الكفاية كي يرى ما فعلته يداه ليس على الصعيد الفلسطيني فحسب، بل على صعيد المنطقة كلّها، بما في ذلك بلد مثل لبنان. ربط لبنان، بطلب إيراني، نفسه بحرب غزّة. يدفع حاليا ثمن هذا الربط الذي أدّى إلى تهجير مليون ونصف مليون من مواطنيه”.
ويواصل كاتب مقال “مجموعة مآزق تركها السنوار” الهجوم على الشهيد السنوار بتحميله مسؤولية ما جرى في غزة، متناسيا أن الدمار والتطهير العرقي الحاصل سببه آلة حرب الاحتلال المجرمة، فيقول: “شئنا أم أبينا، غيّر السنوار المنطقة ودخل التاريخ من بابه العريض. يكفي أنّ الرجل استطاع، بثقافته التي في غاية التواضع، تغيير طبيعة الشرق الأوسط كلّه بما في ذلك طبيعة القضيّة الفلسطينيّة. سمح، بشنه هجوم “طوفان الأقصى”، لإسرائيل بإزالة غزّة من الوجود”. لقد سمحت العربية لهذا الكاتب، ولنفسها، بتمرير خطاب يحمل الفلسطيني مسؤولية ما يقع عليه من جريمة، في تناقض صارخ وحقائق التاريخ والواقع.
الظاهرة الأبرز المرتبطة بالعربية في الوقت الحالي، هي محمد الحسيني، الهارب من لبنان بسبب تهم تتعلق بالتجسس لصالح الاحتلال الإسرائيلي. تقدّمه القناة على أنه محلل سياسي، إذ ينبري في مهاجمة المقاومة وقادتها، وفجأة يتحول لضابط أمن واستخبارات يمرر رسائل التهديد والوعيد للمقاومتين الفلسطينية واللبنانية. هذا الحسيني، الثابت تعامله مع استخبارات الاحتلال، لم يكن في يوم من الأيام محللا سياسيا، لكنه وبقرار من النظام السعودي الذي منحه الجنسية السعودية، أصبح المحلل الأبرز على القناة التي تفسح له المجال في الطعن في المقاومة وقادتها.
ولا تخفي القناة، إلى جانب تبنيها لمصطلحات الاحتلال، كذلك تبنيها لروايته في الأحداث. فمثلا، عندما يتحدث الاحتلال عن احتلال قرى أو السيطرة على مناطق في جنوب لبنان أو قطاع غزة، تفرد القناة لهذه المعلومة حيزا رئيسيا على موقعها ونشرات أخبارها، بينما لا تنقل الرواية المقابلة، أي رواية المقاومة، سواء عن وجود مقاومة عنيفة أو عدم دقة طرح الاحتلال فيما يتعلق بمجريات الأحداث الميدانية، وهذا يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن القناة معنية بإحباط الجمهور العربي والإسلامي المتعطش لأخبار الانتصارات.
هذا التوصيف لخطاب قناة العربية، يحيلنا إلى فهم دورها. إنها وباستنتاج سريع، تعمل لصالح جهاز الهسبراه الإسرائيلي الذي قرر الاحتلال تنشيط عمله منذ عام 2021 بعد سيف القدس. وكانت واحدة من توصيات الجهاز، التابع لحكومة الاحتلال ويعمل تحت إشراف الموساد والشاباك وجيش الاحتلال، هي فتح علاقات مع وسائل إعلام عربية لاختراق الوعي العربي الجمعي والتأثير فيه، خاصة وأن تأثير الرسالة الإعلامية للواجهة العربية يختلف عن تأثير رسالة وسيلة إعلام إسرائيلية، وهذا ما يدفع الاحتلال لمنح القناة معلومات حصرية واستخباراتية حتى تبقى حاضرة في المجال العام العربي، فمثلا تنشر معلومات عن معارك الاحتلال مع المقاومة، خاصة فيما يتعلق بالخسائر، حتى قبل الجيش نفسه، وهو ما يجعل حتى بعض وسائل الإعلام النقيضة تنقل عنها.
المصدر:شبكة قُدس ـ فلسطين