من مهام الدول الحديثة تحقيق الرفاه للإنسان من خلال المواكبة المستمرة للمستويات الحضارية التي وصل إليها الإنسان من حولنا، وبما يحقق مجتمعاً مستقراً يشعر بالأمن الاجتماعي، والأمن السياسي، وهما خاصيتان امتّن الله بهما على قريش، أي خاصية الأمن من الخوف، وخاصية الأمن من الجوع، وقد اشتغل الفكر الإسلامي على فكرة الكليات الست، والكليات الست التي قالوا بها هي : الدين، النفس، العقل، المال، النسل، العرض، وقال المفكرون المسلمون بضرورة جلب المصالح للناس ودفع المفاسد، فالشريعة الإسلامية تقوم على تحقيق هذه المقاصد حتى تحقق مقاصد الله في الأرض وتحفظ كرامة الإنسان باعتباره مكرما, وأبواب هذه الكليات متعددة وكل التشريعات والقوانين في الكون لا تخرج عن هذه الكليات قيد أنملة، سواء ما كان منها مسلما أو كافرا أو يتبع ديانات أخرى غير الإسلام، ولذلك تتعدد الاجتهادات وتكون الحكومات في الدول الحديثة هي الظلال لهذه الكليات، فالعقل ورعايته يتمثل في مؤسسات التكاثر الثقافي مثل التعليم والإعلام والثقافة، والدين يتمثل في مؤسسات الإفتاء والإرشاد وغيرها، والمال يتمثل في المؤسسات الاقتصادية مثل الخزانة أو المالية والبنوك وغيرها، والعرض والكرامة يتمثل في أجهزة الضبط والقضاء وهكذا دواليك.
ولا بد من معرفة أننا نعيش مستوى حضاريا واقتصاديا يختلف كل الاختلاف عن المستوى الذي عاش فيه فقهاء القرن الثاني والثالث والرابع الهجري، ولذلك فكل رأي يستند إلى تلك الفترات دون وعي بحركة الاقتصاد أو معرفة بنظم الاقتصاد المعاصر وموازين النمو ومؤشرات الانهيار يصبح قاتلا ومدمرا لحركة الحياة في عالمنا المعاصر ويخلق بيئة غير ملائمة وغير مستقرة ومناخا للصراع وشرائع الغاب .
فحالة الاستقرار في اليمن ضابطها الأساس هو البناءات الاقتصادية القادرة على تحقيق العدالة الاجتماعية والشراكة في أبعادها الفلسفية المختلفة، والقادرة على تخفيف حدة الصراعات والخروج من دائرة الاقتصاد السياسي الهادف إلى إدارة التناقضات الاجتماعية إلى دائرة الاقتصاد الوطني وفق أسس وقواعد الشراكة الوطنية من أجل التنمية والاستقرار .
ففي كل منعطف تاريخي أو حالة تحولية أو انتقالية يبرز السؤال الاقتصادي كرديف لعملية التحول ويظل السؤال الاقتصادي سؤالاً دائماً ومستمراً في الحالة الوطنية، فهو دائم الحضور ولكنه الأكثر غياباً أو تغييباً وكلما تمتد يدُ التغيير والتحديث للإجابة عليه تكشر المصالح التقليدية أنيابها في الدفاع عنه، ولذلك ظل الحال على ما هو عليه من حيث المؤشرات ونسبة النمو فهي تراوح مكانها إن لم تكن في تدنٍ مستمر.
لا يمكن أن يكون الموضوع الاقتصادي ترفاً ذهنياً بل هو رؤية منهجية مؤصلة وعلمية بقياسات واضحة تدرك أماكن النجاح وتدري الثغرات وأماكن الفشل.. ولذلك فالقول بمعالجة الحالة الاقتصادية الوطنية دون رؤية علمية واضحة ودون دولة قوية وعادلة ودون شفافية مدنية قول باطل لا يمكن الوثوق به ولا يمكنه ادعاء الخروج واقتراح البدائل والمعالجات، فالإطار العام للموازنة العامة للدولة مثقل بكل صراعات وتراكمات وأخطاء الماضي وهو إطار تقليدي تراكم عبر السنين والعقود والأزمنة ولابد من الوقوف أمامه وتشذيبه وتهذيبه، وبالتالي تحديثه حتى يكون الأقرب إلى روح العصر الذي نحن فيه ولا بد أن يكون إطاراً إلكترونياً، أي الانتقال إلى الحكومة الإلكترونية – بدلاً عن الابتزاز الذي يمارسه الموظف المالي في كل المؤسسات- فالحكومة الإلكترونية تخفف من وطأة الابتزاز والفساد وتقاليده الممقوتة وتجعل من الحركة الزمنية ذات قيمة تفاعلية وهو الأمر الذي يتيح سرعة الإنجاز وقد يكون عاملاً مهماً في تعزيز الثقة بين مؤسسات الدولة وجميع المنتفعين، فالضرائب وهي أكبر وعاء إيرادي مع الجمارك إذا لم نتمكن من تحديث البنية التنظيمية والإجرائية وربطها بالتقنية الحديثة في إطار الشبكة الإلكترونية المكتبية وبما يعزز من الرقابة ومن التحفيز على الإنجاز فلا يمكن أن تتجاوز ذات الإطار التقليدي وهو المساومة والابتزاز والتحايل على إيرادات الدولة للمنافع الشخصية.
وموضوع التحديث والتحوّل إلى الحكومة الإلكترونية ليس بالأمر الصعب إذا أردنا إصلاحاً ودرءاً للفساد والمفسدين في هذا البلد.. وقد أصبح إحداث الحركة في المصارف أمراً محتماً وضرورياً، فالمكلف بالضرائب يقوم بالتوريد إلى أحد المصارف بدلاً من ابتزاز المحصل، وإنفاق الدولة يجب أن يكون عبر المنافذ المصرفية وفق آلية إجرائية ضامنة لسلامة الإجراء ووصول الحق إلى أصحابه، واستبدال الكَتَبَة وأمناء الصناديق بالمصرف ضمان أكيد لمثل تلك السلامة.
ثمة معالجات قد تبدو شكلية في ظاهرها ومحدودة الأثر لكنها بالغة الأهمية إذا أمعنا النظر وحاولنا مواكبة الزمن المتسارع، فالزمن تجاوز المكاتبات البريدية التقليدية التي تأخذ وقتاً مضاعفاً، ومثل تلك المكاتبات لا تأخذ جزءاً بسيطاً من الثانية في عالم اليوم، فالإنجاز أصبح أوفر وأكثر وبتكاليف أقل بعد أن تطورت أدواته ولم يعد بحاجة إلى تلك العمالة الفائضة.