عُقدة الثمانين!

وديع العبسي

 

 

ليس فقط نتنياهو المسكون بعقدة الثمانين، فكل قادة الكيان الإسرائيلي وقادة الحركة الصهيونية – واللوبي المتحكم بالاقتصاد العالمي وبمسارات الأنظمة الغربية – لا يزالون يعيشون سقطات هذه العُقدة.
وفي ما نعيش اليوم، يبدو أننا في ذروة العُقدة، والكيان يعيش مرحلتها الأخيرة زمنيا ويتحسس إرهاصاتها مع ما صار إليه من وهن تراجعت فيه أسطورة القوة المزعومة، وها هي الشواهد تتراكم بشكل متصاعد لتصفع نتنياهو بحتميتها، في وقت حسِب فيه أن الرياح تسير بسفينته إلى طموحه بإنهاء هذه العُقدة عن كيانه والتأسيس لتاريخ جديد مستدام لوجوده في الأراضي العربية، يكون هو صاحب الفضل فيه، غير أن ما فجرته معركة طوفان الأقصى على صعيد امتدادها الزمني وتمدد جبهاتها الإسنادية، كان له رأي آخر، ففي الوقت الذي تصور فيه نتنياهو أن مستوى أمنه الداخلي واستراتيجية الردع الخارجي قد هيآ البيئة المناسبة لتحقيق طموحه بتجاوز الثمانين إلى المائة عام، حسب ما أعلن غير مرة، جاء طوفان المقاومة لينسف حساباته وتوهماته كليا ويعيده ومستوطنيه إلى مربع البداية، الأمر الذي خرج به من الطور الإنساني فظهر بهذه الوحشية في القتل والإبادة للمدنيين.. فالداخل غير المتماسك، بات يعيش أزمة أمن شديدة، وبات المستوطنون في حالة رعب متواصلة من عمليات المقاومة الفلسطينية التي لم تنكسر يوما أمام بطشه، وعلى المستوى الخارجي، تجاوزت جبهات محور المقاومة حاجز الـ(أول مرة)، وصارت عمليات قصفه في العمق تتكرر على مدار اليوم، متجاوزة ما راكمه هذا العدو، خلال اشتغاله طوال العقود الماضية، على تأسيس أقوى حائط دفاعي جوي.
وفي حقيقة الأمر، مثّل قطاع غزة محطة اختبار لما وصلت إليه قدرات الاحتلال الإسرائيلي، ولما صارت عليه أسباب البقاء، وهو المحطة المحصورة في (360) كيلو متراً، وجاءت النتائج عكس آمال أمريكا ودولة الاحتلال، إذ انتهى العام ولا تزال المقاومة الفلسطينية تحافظ على قوتها وتلقن العدو دروسا في البسالة وعدم اليأس، وكل يوم تطالعنا ببشائر النصر، والبطش بعدد وعتاد جيش الاحتلال.. يحدث هذا رغم ما مارسه في غزة طوال العام الماضي من قتل وتدمير، ورغم تصريحات نتنياهو التخديرية للمستوطنين وللرُعاة الداعمين، بأنه قد دمر قدرات المقاومة في القطاع، يؤكد ذلك أنه، وحتى وقت قريب، كان يتحدث عن اليوم التالي للحرب ويَعقِد لأجل ذلك، اللقاءات والمؤتمرات مع أمريكا ودول في المنطقة، إلا أن سخرية العالم من القفز إلى الأمام بهذا الشكل فرضت عليه الاهتمام من باب أولى بتأهيل عدد أكبر من الملاجئ لحماية مستوطنيه من الهجمات الصاروخية التي لا تتوقف، ولذلك تراجع الخوض في هذا الجانب، باعتبار أن نتنياهو ومن معه ليسوا في حال تسمح لهم بالتفكير في مثل هذا الواقع المتخيل البعيد كثيرا عن التحول إلى واقع.
كما فرضت شواهد الانهزام على نتنياهو تأجيل أوهامه وقد بدأ يشعر بفداحة الوضع الذي صار إليه كيانه حدّ الشعور بالخطر على وجوده، وحين رفعت المقاومة الفلسطينية وجبهات الإسناد من مستوى التحدي، برز التهديد صريحا أكثر لوجود هذا الكيان ضمن الخارطة العربية، أو لنقل أن اليوم لم يعد كالأمس، وأن العد التنازلي بدأ بالفعل لنهاية حُقبة التواجد الصهيوني في قلب الأمة العربية والإسلامية.
وعلى ضوء ذلك يكاد يكون وقف إطلاق النار اليوم وليس فقط الهدنة، إنقاذاً لهذا الكيان المؤقت ولأمريكا، من الهزيمة المخزية، فعلى كل الصُعُد، تؤكد المعطيات أن هزيمة هؤلاء الدخلاء باتت قريبة، خصوصا وأن بُنية الكيان – الضعيفة أصلا – باتت قابلة للتفكك في أي وقت، ولنا في واحد من تداعيات الطوفان الفلسطيني المَثَل الناصع وهو المتجسد في الهجرة العكسية للمستوطنين والذي تجاوز عددهم المليون، وهذا الرقم من المصادر العبرية ذاتها، ومغادرة أكثر من (60) ألف شركة استثمارية، ما يعني أن هؤلاء الذين تم تجميعهم من دول أوروبا والعالم يدركون أنهم غير مستقرين في هذه الأرض لأنهم لا ينتمون إليها، لذلك فإنهم يتقاطرون هروبا مع كل خطر، ناسفين بتحركهم الطبيعي فكرة الدولة لكيان لم ينجح منذ أكثر من سبعين عاما حتى في تطبيع التعايش بين مستوطنيه وبيئته، وبينهم وبين وَهْمُ البقاء والحياة.

قد يعجبك ايضا