جسد الحياة لا يبدو مكتمل البنية بدون إدراك واع لعناصر الزمن الحاضر والماضي والمستقبل وحين بدأت بالحاضر لم أفعل ذلك عبثاً ، وإنما أردت التأكيد على كون الحاضر دائماً هو مركز الحركة حركة الانسان التي ترسم كينونته وفعله وتؤكد وجوده من حيث يعلم أو لا يعلم ، أو هو ضمير المتكلم ، ومركز الحركة الوجودية هذا إنما يتأسس على الوعي بالحياة المتحقق في الحاضر والمشتق من حقيقة الحضور غير القابل للاختلافات المعتمدة على الروايات مهما بلغ حجمها ومهما كانت قرائن صحتها من خطئها فالرواية دائماً محل الاختلاف والجدل العقيم وهي متعلقة بداهة بالماضي الغائب في حقيقته الحاضر في أشكال التعصب لهذه الرواية أو تلك وهذا هو مصدر دائم لاختلال الأمن والاستقرار وانعدامهما معاً ، لأن درجات تعصب الناس تختلف باختلاف نفسيات المختلفين وما يحملونه من تراكمات ثأرية وأحقاد كامنة متوارثة يستحق أصحابها الشفقة أكثر مما يستحقون الغضب مما يصنعون ، هذا بمنطق من يبحث بجد عن الأمن والسلام في العمق وليس بمنطق من يفتش عما يدعم ويغلِّب رواية على أخرى ليبقى في أسرها ، ومن يملك القدرة على حسن الاختيار هو من يعيش الحاضر بأحاسيس إنسانية مطمئنة مكتملة الأركان والحضور ، والمطمئن دائماً يمتلك شجاعة أدبية عقلية واعية تمكنه من التغلب على الشجاعة الغرائزية المتهورة التي يغلب فيها كثير من الحيوانات المفترسة كثير من البشر الذين يرون أنفسهم شجعاناً قياساً بما يزهقون من أرواح أي مهما بلغت درجة وحشيتهم ، هذا طبعاً في المواجهة المادية المباشرة ، أما في استخدام المكر والحيلة والخداع وابتكار أسلحة الموت والدمار بكل أنواعها وقوة تدميرها خدمة لوحشية الانسان ، وهي قوة تدمير مادية ومعنوية لا محدودة يستخدم فيها كل أساليب المكر والخداع والدهاء وكل أنواع الحيل على كل من حوله وكل من يفترض أنه شريكه في الوطن وفي الحياة ، وفي الغالب يبدأ بالأقربين على عكس ما يردد من القرآن الكريم (الأقربون أولى بالمعروف) ، فالحاصل أن منهجه العملي المعتمد مخالف لهذا المبدأ : (الأقربون أولى بالحسد وأولى بالمكر والخداع والبغضاء والجحود) ، ونرى البعض يستدعي أقبح ما في الماضي من صراعات وتهييج للضغائن ، ويخلق منه خنادق وأنفاق مظلمة ومطبات تعيق حركته باتجاه شمس التحرر من بحر الظلمات المتراطم الأمواج الذي أبقى ويبقي الأمة تعيش في أسر التصورات الخاطئة والأمراض الاجتماعية المعدية ، أما المستقبل فهو تحصيل حاصل أي أنه يساوي ما نحفظه ونحافظ عليه من سيئات الماضي وما بنينا ونبني عليه من حاضر للأمة غير مشرِّف مع الأسف الشديد.
ومن البديهي أن الماضي ليس إيجابيا بحتا ولا سلبيا بحتا، إنه خلاصة حياة من عاشه وأعتقد أن في هذه الآية جواز مرور للجميع إلى بر الأمان (تلك أمةٌ قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون)، ولكل أمة إيجابياتها وسلبياتها مثلما لكل فرد، أي أنها وأنه خلاصة حياتهم التي كانت حاضراً وصارت في حكم الغياب فإذا انشغلنا بزبد الماضي فقد حكمنا على أنفسنا بالذهاب معه جفاءً وانشغلنا بالموت بدلاً عن الحياة ، أما إذا وضعنا ما ينفع الناس نصب أعيننا وضمائرنا فقد أضفنا إلى حياتنا أفضل ما في حياة من سبقنا.
نعم الحاضر دائماً هو ما يمكن أن يخضع لتجربتنا، وما نراه مفيد صالح للبناء عليه من حياة من سبقنا يعبر عنا ونعبر عنه ونجعله محط عنايتنا واهتمامنا، ولا ينبغي أن نلعن الزمان الذي نعيشه حينما يتجلى لنا فساده لأننا إنما نسب أنفسنا فهو مرآتنا وصدانا.
(يقولون الزمان به فسادٌ وهم فسدوا وما فسد الزمانُ)
التذمر المطلق من الحاضر هروب واضح من المسؤولية وتعلق بالوهم، لأن ما مضى لا يمكن أن يعود مهما توهمنا وحلمنا، والمستقبل له أصحابه وأدواته وظروفه وحاضرنا هو نحن بكل المعاني.
(ما مضى فات والمؤمل آت ولك الساعة التي أنت فيها)؛
الزمان والمكان جسد واحد لا ينفصلان والتعلق بالماضي وتقديسه تفكيك غير واع لهذا الجسد الذي لا يقوى ولا يكون له فعله ووجوده إلا بالنقد البناء للحاضر وللماضي لاستخلاص أفضل ما فيه، والنقد البناء والمفيد لا تدركه غير العقول الصادقة القادرة على تمييز الغث من السمين بكل صدق وحب ووفاء.
عن مكان النجوم سل الليل
والشمس عن كل هذا الجلال
وكيف تترجم ما في المصابيح
من لغة الكائنات التي أورقت في القلوب
حروفاً من الضوء مثقلة بالجحود
حالم وجه صنعاء ياصاحبي ما يزال