إرادة التحرر لا تنتصر بالانقلابات:انقلاب النيجر.. هل يقدم البديل الأمثل لأزمات النفوذ الفرنسي

 

خيارات صعبة تلك التي وُضع فيه الشعب النيجري للتعبير عن تطلعاتهم الوطنية بالتقاط فرصة التحرر من سطوة النفوذ الفرنسي طويل الأمد تحت مظلة انقلاب عسكري بدد آمال التغيير الديموقراطي ومشروع الدولة المستقرة، ووضع شعبا متشظيا يتحدث سكانه 8 لغات قومية وسط حقل الغام من العزلة والفقر والتدهور الاقتصادي والتهديدات الإرهابية.
الثورة / تحليل / أبو بكر عبدالله

بعيدا عن التداعيات الاقتصادية والأمنية التي سببها انقلاب قادة الجيش النيجري على الرئيس المنتخب محمد بازوم، تنخرط النخب السياسية النيجيرية في جدل بشأن الدوافع التي دعت الجيش النيجيري وقطاع من الشعب لتأييد الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس المنتخب محمد بازوم لصالح انقلاب عسكري أطاح كذلك بتجربة ديموقراطية ناشئة كانت مؤهلة رغم كل شيء لقيادة مشروع النهوض السياسي والاقتصادي والاجتماعي لجمهورية النيجر.
هذا السؤال كان أيضا موضع اهتمام كثير من النخب الافريقية والأوروبية التي تعاطت مع انقلاب النيجر كظاهرة جديدة ارتبطت بمعادلة التحولات الدولية وانحسار النفوذ الفرنسي في مستعمراتها القديمة بغرب افريقيا وعجز باريس عن إنتاج مقاربات جديدة تتخطى القواعد التي أسس لها شارل ديغول في ستينيات القرن الماضي والتي فقدت مبرراتها منذ زمن طويل وتحولت اليوم إلى ذريعة تفتح الطريق لانقلابات عسكرية واضطرابات سياسية واقتصادية في أكثر المناطق فقرا واغنى بالموارد الطبيعية بالقارة السمراء.
لا تخرج تلك المقاربات عن أزمات عميقة ظلت تتفاعل تحت الرماد لعقود على صلة بسياسة الحقبة الاستعمارية الفرنسية التي كرستها باريس في ظل مستعمراتها الـ 14 بغرب افريقيا منذ نيلها الاستقلال في ستينيات القرن الماضي وحتى اليوم.
من الدول التي خرجت من عباءة النفوذ الفرنسي وفي الجهات الأربع لأفريقيا ثمة اجماع يمتد حتى الداخل الفرنسي ينظر إلى السياسة الاستعمارية الفرنسية كسبب أول في دفع شعوب المستعمرات الفرنسية السابقة إلى جعل التحرر من الهيمنة السياسية والاقتصادية الفرنسية مشروعا وطنيا مقدما على كل شيء وهو ما فسر التأييد الشعبي الذي حظيت به الانقلابات من مالي إلى بوركينافاسو وأخيرا النيجر.
في حالة جمهورية النيجر فإن كثيرين يؤكدون أن النيجريين الذين احتشدوا أو تم حشدهم في شوارع العاصمة نيامي لم يكونوا مؤيدين للانقلاب العسكري، فخروجهم جاء تعبيرا عن مشروعهم الوطني في التحرر من النفوذ الفرنسي الذي يعتقدون أنه استمر في نهب ثرواتهم مدعوما باتفاقيات اخضعت النيجر ومؤسساتها ومواردها للتبعية المطلقة لفرنسا.
يشار في ذلك إلى 11 اتفاقية وقعتها الحكومات النيجرية بعد الاستقلال في ستينيات القرن الماضي والتي ظلت قائمة طوال هذه العقود دون أن تتجرأ الحكومة بوقف العمل بها، إلى حين جاء المجلس العسكري الانقلابي الحاكم حاليا بقرار إلغائها.

اتفاقيات استعمارية
منذ ستة عقود كانت هذه الاتفاقيات بالنسبة للنيجريين تدشينا لحقبة استعمارية جديدة خضعت فيه بلادهم لنفوذ فرنسي طال كل جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وعلى سيبل المثال، فقد أرغمت الاتفاقية الأولى النيجر على سداد فواتير مشاريع البنية التحتية التي شيدتها فرنسا خلال الحقبة الاستعمارية بما في ذلك فوائدها التي لا تزال تخضع حتى اليوم للتقييم وفق شروط مجحفة، في حين الزمتها الاتفاقية الثانية بوضع نحو 80% من ارصدتها واحتياطاتها المالية تحت سلطة المصارف الفرنسية والتحكم بعمليات السحب من هذه الارصدة لتبقى أموال الدولة بحوزة الحكومة الفرنسية تستثمرها بالطريقة التي تحقق مصالحها الاقتصادية.
يشار أيضا إلى اتفاقية ثالثة منحت فرنسا الحق الأول في شراء أي موارد طبيعية يتم اكتشافها في الأراضي النيجرية باعتبار أن مصدرها أراضي مستعمراتها السابقة، وقيدت صلاحية السلطات الوطنية في البحث عن شركاء آخرين لشرائها أو استثمارها فقط في حال لم تبد فرنسا اهتماما بها، في حين ذهبت الاتفاقية الرابعة إلى منح الأولوية للمصالح والشركات الفرنسية في العقود العامة والصفقات العمومية مهما كانت العروض المقدمة من جهات أخرى منافسة.
وفرضت اتفاقيات أخرى هيمنة فرنسية كاملة على القطاعات العسكرية والأمنية حيث منحت الاتفاقية الخامسة فرنسا الحق في التحكم بكل إجراءات بناء الجيوش الوطنية وتسليحها والزامها بإرسال كبار الضباط للتدريب في فرنسا، بينما منحت السادسة باريس سلطة نشر القوات والتدخل العسكري في البلد للدفاع عن مصالحها فضلا عن حقها في بناء قواعد عسكرية.
لم تختلف بقية الاتفاقيات عن سابقاتها في نزوعها لفرض الهيمنة والنفوذ الكامل حيث ألزمت النيجر بجعل اللغة الفرنسية لغة رسمية ولغة التدريس والزمتها باعتماد فرنك المستعمرات الفرنسية كعملة وطنية للتداول، ناهيك عن الزامها القسري بعدم الانخراط في أي تحالف عسكري دون مواقفه باريس وتعهدها الوقوف إلى جانب فرنسا في حالة الحرب أو أي أزمة عالمية.
وأكثر من ذلك أنها ضمنت تواجداً عسكرياً فرنسياً مباشراً ودائما في النيجر ونفوذاً هائلاً للتحكم بسياساتها الداخلية وماليتها العامة وخضوعاً كاملاً للنخب الحاكمة.

أخطاء فادحة
في ظل هذه الاتفاقيات الاستعمارية الجائرة عاش النيجريون كغيرهم من شعوب دول غرب افريقيا عقودا مريرة من التخلف والفقر الذي جثم على 23 مليون نسمة وجعل من بلادهم ملاذا للفساد السياسي والتطرف والإرهاب.
وقياسا بهذه الظروف كان النيجريون يشيرون دائما إلى حالة التعافي الاقتصادي التي تحققت في الدولتين اللتين خرجتا من ربق الوصاية الفرنسية (رواندا وأفريقيا الوسطى) باعتبارهما نماذج لما يمكن أن يحققه النيجر من نهوض اقتصادي في حال إنهاء الاتفاقيات الـ 11 الموقعة مع باريس، غير أن فرنسا كانت تتدخل بقوة لبقائها سواء عن طريق أنظمة الحكم الاستبدادية أم من طريق أنظمة الحكم الديموقراطية التي كانت تُصنع باريس.
هذا الأمر لم يكن خافيا على النيجريين الذي افاقوا يوم الـ 26 من يوليو الماضي على وقع انقلاب عسكري أطاح الرئيس المنتخب والنظام الدستوري ليعلن تاليا الغاء الاتفاقيات الفرنسية التي كبلت النيجر لعقود طويلة.
كان واضحا أن هذه الخطوة لم تكن سوى ذريعة للحصول على تأييد شعبي لانقلاب عسكري بدأ للتو في السيطرة على السلطة والقرار، مديرا ظهره لتبعاته الكارثية.
كانت هذه الخطوة حلما وطنيا بالنسبة للنيجريين لو أنها تمت تحت مظلة حكومة شرعية في حين أن مسارعة الحكم الانقلابي لاتخاذها دون غطاء شرعي بدا ضمن أشياء أخرى وكأنه تنفيذ غير منهجي لكتاب تعليمات اعاد تكرار ما حدث في مالي وبوركينافاسو في خطأ استراتيجي فادح توخى دعما شعبيا يجنب الانقلابين المواجهة مع الداخل والمحيط الرافض للانقلاب.
نعم كان المجلس العسكري الانقلابي يدرك أن الشعب النيجري يتوق لإلغاء هذه الاتفاقيات التي يُعتقد أنها اخضعت السلطات السياسية المتعاقبة على حكم البلاد منذ الاستقلال للتبعية الفرنسية وآخرهم الرئيس المعزول محمد بازوم الذي كان يُنظر اليه بوصفه رجل فرنسا الأول في النيجر.
لكن الحساسية الشديدة لهذه الخطوة تحت مظلة سلطة انقلابية غير معترف بها لا افريقيا ولا دوليا قدم رسالة بأننا أمام مجموعة عسكرية انقلابية تحاول بعناء الربط بين مشاريعهم الشخصية والشعور العام بالسخط الشعبي من الادارة الحكومية السابقة الموالية لفرنسا.
لا دليل على ذلك أكثر من أن السلطة الانقلابية لا تزال تتجاهل حتى اليوم مطالب القوى السياسية النيجرية في وضع خطة لمرحلة انتقالية تُفضي إلى انتخابات نزيهة وحكومة دستورية شرعية.
وتجاهل هذه الخطوة حتى اليوم يثير القلق من أن الانقلاب على الرئيس المنتخب محمد بازوم كان عبثيا بما فيه الكفاية، كما يؤشر إلى سلسلة انقلابات قادمة، تماما كما حدث في الجارة القريبة مالي التي شهدت في 10 أشهر انقلابين عسكريين اعتمدا الذرائع ذاتها.

سيناريو الفوضى
واحد من أخطر السيناريوهات التي تهدد النظام الانقلابي في النيجر هو الفوضى، ففي ظل مؤسسة عسكرية طالما عانت من شروخ كبيرة فرضتها توازنات المؤسسات السياسية ومصالح القوى الدولية النافذة، فإن إمكانية تكرر سيناريو الانقلاب العسكري واردة بما يجعله سلوكا اعتيادا لكل الطامحين للحكم، وأي تدخل خارجي يمكن أن يحرك عجلة الانقلابات وربما الصراع الداخلي على السلطة.
ويصعب التكهن بإمكان أن يصمد المجلس العسكري الحاكم أمام التحديات الاقتصادية في ظل العقوبات الافريقية والدولية، فغياب نصف تمويلات الموازنة العامة للدولة والتي كانت النيجر تحصل عليها من مساعدات خارجية والغياب الشبه كامل للطاقة الكهربائية التي كانت توفرها نيجيريا، سيفرض أعباء وأزمات وتدهور للبنية التحتية والخدمات بصورة متسارعة ما سيقود بالضرورة إلى اضطرابات سياسية وانقسامات ستفقد معها القيادة العسكرية الكتلة الصلبة الداعمة للانقلاب.
أكثر من ذلك فإن ظروف التدهور الاقتصادي والفقر وانعدام الخدمات الاساسية، يمثل في الواقع بيئة خصبة للتنظيمات الإرهابية التي ترى في النيجر أفضل بيئة لتشكيل إماراتها استنادا إلى التواجد الكبير لتنظيمي “القاعدة وداعش” وكذلك الجماعات المتطرفة المسلحة المتحالفة مع حركة بوكو حرام الإسلامية النيجيرية المتطرفة.

مشهد قاتم
من غير المرجح على المديين القريب والمتوسط أن تقدم سلطة الانقلاب حلولا اقتصادية وسياسية لهذا البلد الفقير الأكثر اضطرابا في غرب افريقيا، فالبلد لا تمتلك أي بنية تحتية قد تمكنها من استثمار مواردها، كما أن الصراعات التي ينتجها الانقلاب تجعل أي موارد مهما كانت في مهب التقاسم إلى سيغرق حتما في معادلة على توازن الضعف.
التاريخ القريب يقول لنا ذلك، ففي أكثر من 50 انقلاباً شهدتها الدول الافريقية خلال العقود الماضية، بينها 6 انقلابات شهدتها النيجر وحدها، وفي جميع الانقلابات كانت النتيجة الأكثر وضوحا ان الحكم الانقلابي يخلف اضرارا على الدول والمجتمعات تفوق ما كان يطمح اليه الناس من مكاسب ومنافع.
ذلك ان الانقلابات هي أسوأ أعراض أزمات الديموقراطية الناشئة ولا يمكن باي حال ان تكون علاجا لها ومن يتوقع ان تحل أي سلطة انقلابية مشكلات مواطنيها فهو كمن يأمل الوثوق بالذئب لرعاية قطيع الاغنام.
العادة الثابتة في الانقلابات أنها لا تقدم أي بدائل مثالية فهي تُدخل الدول في دوامات من الصراعات الداخلية والفوضى التي تنحسر معها فرص إقامة حكومة دستورية ديموقراطية تكون فيها الكلمة الفصل للقانون وينخرط تحت مظلتها الجميع.

الثابت والمتغير
الثابت في الكثير من تجارب الأزمات الدولية الناتجة عن انقلابات لم تقدم أي مجموعة انقلابية تجربة في إعادة بناء الدولة وتفعيل القوانين والدساتير، فكل مجموعة انقلابية فخطوتها الأولى تكون تعليق العمل بالدستور والقوانين، لتباشر أولويات تثبيت قدمها في الحكم بأي كلفة بما في ذلك حشر الدولة في دوامة من الصراعات والحروب، لتجهض بذلك أي طموحات لعودة الدولة إلى حالة الاستقرار.
والوضع المريع في النيجر لن يكون قابلا للتحسن على المدى القريب فكل التقديرات تؤكد أن الأوضاع ستزداد سوءا، ولعل ما حدث في الأيام القليلة الماضية يكفي لتأكيد ذلك حيث اتجهت المجموعة الانقلابية التي تعتقد أنها تدافع عن مصالح الشعب إلى مالي للتواصل مع قوات شركة “فاغنر” العسكرية الروسية دون الاكتراث للعواقب الوخيمة لهذه الخطوة.
في النهاية سيكتشف النيجريون أن السلطة الانقلابية لم تقدم لهم جديدا وأن ما قالت إنه انهاء للنفوذ الخارجي لم يكن سوى تبديل لنفوذ داخلي أكثر قسوة.
ذلك أن قرار المجلس العسكري الانقلابي الغاء الاتفاقيات الموقعة مع باريس لن يجد قبولا لا افريقيا ولا دوليا، وسيبقى لسنوات شوكة في الحلق كونه اتخذ من سلطة انقلابية ستكون في الغد القريب امام تحديات خطيرة في ظل العقوبات التي ستفاقم من أزمات الشعب النيجري الذي يعيش معظم سكانه في حالة فقر مدقع وغياب شبه كامل للخدمات الأساسية.
ويزداد المشهد قتامة عند الوقوف أمام التحديات الإرهابية التي ستواجهها السلطة الانقلابية منفردة هذه المرة، في ظل حالة انقسام واضطرابات سياسية داخلية عميقة، وهو أمر صار واقعا بعد شروع تنظيم “داعش” بحشد الكثير من عناصره وتجنيد المئات من سكان القرى المنتشرة في منطقة الحدود المالية النيجرية لتأسيس إمارة إرهابية هناك.
والمرجح أن القاعدة العسكرية التي شيدتها الولايات المتحدة الأميركية هناك في وقت سابق ستُغلق في حال استقرت الأوضاع لمصلحة المجموعة العسكرية الانقلابية، وهي قاعدة عسكرية للطائرات المسيرة من دون طيار كانت تنشط في الحرب على الإرهاب في كل منطقة الساحل والصحراء وقادت في السنوات الماضية تحالف دولي من خمس دول افريقية لمواجهة تنظيمي “داعش والقاعدة” ويصعب توقع أن الجيش النيجري سيملأ هذا الفراغ في الفترة المقبلة في العقوبات الافريقية والدولية وفي ظل التقديرات التي تؤكد التوسع الكبير للتنظيمات الإرهابية في المناطق الحدودية.

قد يعجبك ايضا