القضاء بين القانون والفتوى

يكتبها اليوم / عبد العزيز البغدادي

 

 

أياً كان الفقيه الذي تصدر عنه الفتوى من حيث المكانة العلمية الفقهية والتقوى فإن ما يصدر عنه من فتاوى إنما هي آراء ليس إلّا، وهذا لا ينقص من قيمته ولا يزيد إنما المقصود أن الأخذ بالفتوى قضاءً يدخل ضمن سلطة القاضي التقديرية ولا تكون إلّا في حالة وجود التباس أو تضارب بين المادة الشرعية والقانونية ، ومعلوم أن مفتي الجمهورية على درجة من العلم والمعرفة والتقوى ولهذا فإنه يدرك خطورة أن يبقى القانون في مهب الريح، وأن الفتوى لا تنقل مسؤولية تحقيق العدالة من على كاهل القاضي لأنه ملزم بتطبيق القانون على جميع القضايا وليس وفق الفتوى ، وهذا مبدأ دستوري ، ما يدفع بعض الخصوم لاستصدار فتاوى هو اللجج في الخصومة ومحاولة فتح ثغرات قد تساعدهم على إرباك القاضي وتضليل وإعاقة العدالة وإطالة أمد النزاعات ما يسبب مشكلات جانبية قد يترتب عليها قضايا جنائية.
القانون هو المرجعية الموحدة لحل النزاعات، والقضاة الذين يتجاوزون هذا المبدأ فيحكمون بناءً على فتوى مخالفة للقانون يمثلون قلة يعتقدون خطأً أن الفتوى تمثل الالتزام بالشريعة الإسلامية، ويكمن خطأ هذا الاعتقاد في مسألة جوهرية هي أن تفاصيل ما لا يقل عن 80% من الفتاوى تستند إلى الأحاديث والمرويات والخلافات الفقهية التي كثيراً ما تخرج عن القرآن الكريم المصدر الأول والأساس في شريعة الإسلام ويحتوي على أحكام عامة مجملة، أما السنة واجتهادات الفقهاء فغالباً ما تكون مصدر الفوضى في الفتاوى المثيرة للجدل.
ومن المعلوم أن جماعات الإرهاب التي نشأت باسم الإسلام في العقود الماضية بما خلقته في العالم من آراء ومشكلات مثلت وتمثل إساءة واضحة إلى الإسلام كدين تسامح وتعايش، فقد تشربت أفكارها الإرهابية من فتاوى ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب وبن عثيمين وغيرهم ممن كانوا شركاء للأنظمة التي ادعى حكامها أنهم حماة الإسلام وحراس المعبد وقد غذوا هذه الأنظمة بالفتاوى حسب الطلب ، ولهذا الغرض أنفقت المملكة العربية السعودية مئات المليارات من الدولارات منذ إنشائها قبل حوالي سبعين عاما.
ومعظم الفقهاء بمختلف مذاهبهم ومشاربهم يبيعون عقولهم وضمائرهم للأنظمة ولذلك فهم شركاء في كل ما ارتكبوه ويرتكبونه من جرائم، ولأن فتاواهم وظيفية فقد رأينا كيف تم استبدال ما أسمي بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في السعودية مثلاً بما يسمى هيئة الترفيه وما أدراك ما الترفيه!!، ولا أعتقد أن كون من يرأس الهيئتين من آل الشيخ يأتي من باب المصادفة !.
إن الحاكم السياسي أو القضائي الذي يعتمد على هذا النوع من الفتاوى ويسمح بالمساس بمبدأ سيادة القانون هو ومن يقدم له الفتوى حسب الطلب واقعان في مأزق كبير أساسه إلغاء العقل والضمير وفقدان الهوية الجامعة والعقاب من الله والناس مهما زينت لهم الأقاويل والمدائح، والحاكم الذي يعتمد على الفتوى في توجيه النظام السياسي يجعل الدولة في مهب الريح، ويتحمل وحده كامل النتائج عمّا تؤدي إليه هذه السياسة من تقلبات غير محمودة.
القانون هو الأقرب إلى روح الشريعة الإسلامية من الفتاوى لماذا؟: لأن آراء الفقهاء ليست الإسلام ، الإسلام عبادات ومعاملات ، والفتاوى حول العبادات شخصية أما المعاملات فالقانون هو الأقدر في عصرنا على تنظيمها واستيعاب تفاصيلها ، ومن يعد مشاريع القوانين مهما كان مستواه العلمي يضعها بين أيدي وفي متناول عقول (301) من أعضاء مجلس النواب أو أي عدد يزيد أو ينقص قليلاً، ومن المؤكد أن ما يتوصل إليه هذا العدد من آراء إذا كانوا منتخبين انتخاباً حراً ونزيها أقرب إلى الصواب من الفتوى لأن ضرورة المناقشة لمشاريع القوانين تدفع أعضاء مجلس النواب إلى البحث في آراء الفقهاء من مختلف المذاهب وشروح القانون والفقه المقارن والغوص في التفاصيل لاستخراج أفضل الآراء وأقربها لتحقيق المصلحة ومن ثم تضمينها القوانين ، وهو ما يؤدي إلى نتيجة أقرب إلى الصواب من أي فتوى قد ينظر إليها بأنها تعبر عن انحياز لمذهب الحاكم غير الجائز قانونا وشرعاً.
فسيادة القانون هو المبدأ الجامع وأخطاء القوانين إن وجدت يمكن تصحيحها عبر تصحيح مسار السلطة التشريعية وإلى جانب ذلك فإن مبدأ الفصل بين السلطات يمثل إحدى ضمانات الشرعية المعبرة عن المجتمع والقابلة للبقاء والقبول والاحترام والاستقرار الحقيقي، أما تجارب الحكم التي اختلطت فيها مصلحة الدولة بمصلحة الحزب أو الجماعة أو المذهب أو الفئة أو القبيلة فقد تبين أنه أقرب للسراب والاستقرار الذي توهمت أنها قامت أو تقوم ببنائه لا يتعدى كونه ناراً تحت الرماد.
عناق القلوب يبدد كل المخاوف
ويفتح كل الدروب
الصدق عدته ومداه
وطن الحب والبحر والانتماء
كيف السبيل إلى لقياك يا وطني

قد يعجبك ايضا