حياة اللغة من حياة الأمم

يكتبها اليوم/ عبد العزيز البغدادي

 

من حيث ندري أولا ندري تمضي بنا الحياة إلى حيث تريد أو بالأصح إلى حيث يريد من يملك قدرة التأثير والفعل الخلاق في الحياة الدنيا، وهل يملك هذه القدرة إلا من يقدِّرُ العلم ؟!، والعلم المقصود هنا هو العلم الذي يصنع هذه الحياة أو تُصنع به، ومن يقدر هذا العلم هو من يفعل في حياته ما ينبغي فعله لا من يصنع الأكفان بتبني السلفية بكل ألوانها وينشغل ويشغل الناس بتقديس سجن الماضي والطواف حوله، وسيعلم السجان ولو بعد حين أن الحاضر الذي يعني الإنسان الحي سيصبح ماضياً بلا فعل!؛

العلم الذي يجب أن يهم الأحياء ويشغل بالهم هو العلم الذي يشارك في صنع الحاضر وفي إثبات وجودهم بين المؤمنين بالحياة وابتلائها، والرسالة التي يجب عليهم أداؤها والانشغال بها خلال أعمارهم التي تطول أو تقصر حسب القيمة والأثر لا حسب الانشغال بالموت وما بعده!؛

في مقيل أحد الأصدقاء أشار أحد الحضور إلى أن منظمة اليونسكو الدولية المختصة بالتربية والثقافة والعلوم في تقرير لها صدر مؤخراً عبَّرت عن خشيتها من أن تكون اللغة العربية من بين اللغات المهددة بالاندثار والموت رغم جمالها، وأنه لا بد من إيجاد وسيلة لإنقاذها وحمايتها كما تحمى الحيوانات المهددة بالانقراض !؛

وحديث المنظمة الأممية هنا حديث مرتبط بأدائها لوظيفتها الآلية في دراسة مجالات الثقافة والتربية والعلوم وتعدد الثقافات والفنون والآداب باعتبار التعدد مصدر غنىً وقوة لوحدة العالم الحر المنشودة التي لا تبقى وتستقيم دون احترام التعدد، ولا معنى للوحدة ولا للتعايش بين البشر دون الاهتمام برعاية الحق في التعدد والتنوع، وأي تفكير في إلغاء هذا الحق إنما هو تفكير شاذ يحمل في طياته رغبة متوحشة في إلغاء نواميس الطبيعة القائمة على التنوع والتعدد والتكامل، يصدق هذا داخل الدولة الواحدة، كما يصدق داخل المجتمع الدولي، وأقصد المجتمع الدولي الحر فعلا المؤمن بالحوار الحقيقي، وليس مجتمع التمحور اللا إنساني، المسير بنزعات الاستبداد والغرائز وتتحكم به الشركات متعددة الجنسيات ذات المخالب والأنياب والمصالح المتوحشة !؛

العالم غني بالثروات والتنوع البيئي والبيولوجي والجيولوجي ويمكن تنظيم استخراج ثروات العالم بالعدالة والتفاهم الإنساني الخلاق بين سكان هذا الكوكب الجميل وحسن إدارة استثمارها بما يحقق السعادة للبشرية وبما يضبط إيقاع التنافس الخلاق دون حاجة لكل هذه المآسي التي يهندس لخلقها وتوجيهها من يطلقون العنان لغرائزهم بغرض التحكم في مصير البلدان المتخلفة علمياً الغنية بثرواتها المادية، فيوظفون لها نماذج من الحكام عديمي العلم والثقافة نزعت عنهم الرحمة والشفقة ودعم الأنظمة والمنظمات والجماعات والكيانات الإرهابية والإيديولوجيات السياسية والدينية والمذهبية المتخلفة وإيصالها إلى الحكم واستثمارها بحماية بقائها إلى أن تصبح أوراقاً محروقة ثم التخلص منها أو تدويرها، إما بالمؤامرات والحرب الناعمة أو بالتدخل العسكري المباشر إن لزم الأمر لفرض أنظمة عميلة قد تتظاهر بسب العمالة والارتزاق وهي غارقة في بحارها، فالأنظمة والمنظمات والتنظيمات العميلة بالتأكيد لا تصرح بأنها عميلة ولكن سلوكها مناقض لما تدعيه من المبادئ والقيم والأديان والمذاهب والأفكار فهي لا تؤمن بالحوار ولا بالديمقراطية ولا بمبادئ حقوق الإنسان وتدعي جازمة أو مناورة أنها تمتلك الحقيقة المطلقة والحق في الانفراد بالسلطة، وهذه الدعوى مع الأسف لا تزال تحرك أكثر أنظمة الظلام بؤساً في هذا العالم؛

وبالعودة إلى تقرير منظمة اليونسكو الذي أشار إليه الصديق العزيز لا شك أن هناك من يتساءل: وما علاقة علم الاقتصاد والعلاقات الاقتصادية بعلم اللغة والعلاقات الثقافية؟!

ولكن هذا السؤال الافتراضي لم يعد من الأسئلة التي تحتاج إلى عناء في البحث عن الإجابة عليها بل إنه قد أصبح على قدر من السذاجة، لأن حياة اللغة إنما هي جزء لا يتجزأ من بقية أجزاء الحياة ومفرداتها الاقتصادية والسياسية والثقافية والمعرفية وهي وسيلة التعبير عن هذه الأجزاء والمفردات، ولهذا ولأن الدول لم يعد بإمكانها أن تعيش في حالة عزلة عن بعضها نتيجة تداخل المصالح واتساع نطاق التجارة الخارجية وتبادل الخبرات والمعارف والتغيرات الجوهرية في البنى الاقتصادية.

لذلك كله فإن الدول الأكثر ابتكارا وإنتاجا للسلع والخدمات هي الأكثر حضوراً في الثقافة واللغة والفنون المعاصرة، ومن ليس له حضور فإن لغته بالتأكيد ستضمحل تدريجياً دون اعتبار لماضيه الذي يتغنى به، فاللغة بل وحتى الهويات تولد وتنمو وتترعرع وتشيخ وتموت ثم تعاود الكرة مرة ومرات بفعل قدرة الإنسان صاحب اللغة والثقافة والهوية على الحضور بقوة العلم وليس بالادعاء والخمول!، فاللغات والهويات القابلة للبقاء تصنعها الشعوب الحرة وليس الأنظمة المستبدة، ومع ذلك فإن في كل موت حياة وعقب كل حياة موت.

من أين تأتي لغتي؟

من السؤال أم من أجوبة مفتعلة؟

من خطبٍ بلا خطاب

أو من غُثاء البسملة؟

يا قارئ التاريخ

كيف تُحَلُّ المسألة؟

 

 

 

 

 

 

 

قد يعجبك ايضا