نحن اليوم في مسار معركة شاملة لعل أبرز ملامحها المسار العسكري والمسار الاقتصادي، لكن لن ندرك أن أهم تجليات المعركة سيكون المسار الثقافي بعد أن تستنفد المعركة العسكرية خياراتها وتضع الحرب أوزارها سوف يبرز دور المعركة الثقافية بضراوة أشد مما كان عليه، ولذلك من الحكمة أن يكون لدينا الاستعداد الكامل للمواجهة حتى يتكامل انتصارنا، ونستعيد زمام الأمور ونتحكم في مقاليد الزمن القادم بدل الاستسلام .
معركتنا الحقيقية ليست مع أمراء النفط، إنما أولئك خُزّان مال، وحُرّاس ثروة، ليسوا أكثر من ذلك، فمهمتهم تمويل المعارك، والاستراتيجيات التي تقف وراءها كبريات المؤسسات البحثية في العالم، والتعامل مع العقل الآري ليس كغيره فهو لا يتقبل القضايا ككليات بل يقوم بتحليلها وتجزئتها، ويسعى في توظيف الثغرات ليحقق غاياته ومآربه، ولذلك نقول بالاهتمام بالإنسان وتوفير حاجاته البيولوجية وإشباع تجاربه من خلال الفنون، وتفجير طاقاته الفكرية من خلال الحوار الدائم الذي يصحح المفاهيم.
لن تكون المعركة الثقافية سهلة، فقد تركت الحرب جروحاً غائرة ومسافات نفسية متباعدة، وحالات فكرية صامدة، ومفاهيم وتصورات ثابتة من خلال تكثيف الخطابات الإعلامية والفنية والأدبية في الاستهداف ولذلك نرى أن جمع الطيف المتعدد في الرؤى والمشارب تحت خيار مشروع وطني جامع موجه وفق رؤية استراتيجية تُبنى على أسس فكرية وعقلية تعيد ترتيب نسق الذات في داخلها وترمم المتصدع في القناعات والخيارات وتعمل على تمتين الهوية الوطنية الجامعة عبر مختلف المجالات من الضرورات الملحة في هذه المرحلة، فالهدنة قد كشفت لنا الكثير من الثغرات التي تحتاج إلى الردم بما هو إيجابي .
فمؤسسات التكاثر الثقافي – أقصد المؤسسات التعليمية والثقافية والإعلامية – مؤسسات مهمة في البناء التنظيمي للدولة، يفترض أن لا يظل دورها غائباً وقائماً على الفوضى والارتجالية في مسار الدولة العام، وهي مؤسسات نظرية مهمة في البعدين الاقتصادي والسياسي، فالاقتصادي من حيث استثمارها في الإنسان وتنمية قدراته ومهاراته ومثل ذلك يعود بالنفع العميم على اليمن، وثقافياً من حيث قدرتها على التجديد والإبداع والابتكار، فهي تثير السؤال وتناقش الإجابات من منظور حيوي وتفاعلي، والمرحلة تتطلب تفعيل دور هذه المؤسسات والاشتغال على حيويتها وتفاعلها مع الواقع ومثل هذه المؤسسات من الأهمية بمكان الصدارة، إذ يفترض بها تكوين رؤية واضحة للهيكل العام، وكيفية توظيف المتاح وتحديثه، وهذا الأمر لا يمنع بقية المؤسسات من الاشتغال على قواعد البيانات وبحيث تستطيع كل مؤسسة تكوين رؤية واضحة وعلمية تشخص إشكالات المراحل وتقترح المعالجات وبحيث تكون السلطة التنفيذية قادرة على خدمة الجماهير العريضة بكل قدرة وتمكن وفي ذات السياق تعمل على تمتين الآصرة الوطنية .
ليس اليمن وطناً عابراً ولن يكون كذلك لأنه متجذر في عمق هذه التربة، ومن خصائصها، وله امتداد تاريخي وحضاري، ولذلك فبقاء هذا الوطن كما كان عليه في سالف دهره من القدرة والتمكن وصناعة الحضارات والتاريخ، تفرضه حزمة من العوامل، وهي التي تمنع تفككه وتشظيه، وإن كابد المستعمر نفسه في الوصول لذلك فهو سيفشل حتماً، وما يجب معرفته أن كل مرحلة تتطلب وعياً واضحاً بها، وتتطلب قيادات بحجمها، ولا نعدم مثل ذلك في صفوف الواقع اليمني اليوم .
ليس مطلوباً من اليمن في هذه المرحلة أن يكون حاضراً بقوة في تفاصيل المشهد السياسي الإقليمي – وإن كان الواقع يفرضه بقوة الحضور الشعبي والصمود الأسطوري – فالتعامل مع الواقع يجب أن يكون بقدر معلوم يحفظ التوازن الاجتماعي والثقافي والسياسي، لكن حضور اليمن القوي يفترض تركيزه في بؤرة واحدة وهي ترتيب البيت الداخلي، وإعادة تأهيله وفق أسس وقيم جديدة، كما يفترض تجديد الأهداف وتحديثها وبحيث تكلف لجان أكاديمية وعلمية تعمل جاهدة على دراسة واقع اليمن، وتقييم الحال الذي آلت إليه الأمور في ظل المستجدات والتفاعلات الجديدة والحالة الأجد، ويفترض بقيادة الدولة في هذه المرحلة أن تنظر إلى مؤسسات الدولة وبنيتها التنظيمية وهيكلها العام ومدى فاعلية تلك المؤسسات وكيفية تحديث نظمها وآلية عملها ليكون تفاعلها أكثر نفعا وتأثيرا من ذي قبل مع الاستفادة من النظم الحديثة ومن التقنية الإلكترونية حتى نتجاوز كل العثرات ويكون الأداء أجدى وأنفع، فالمرحلة التي نحن فيها تتطلب تنظيماً قوياً ولا تقبل الفوضى والارتجالية في التفاعل مع مستجداتها ومعطياتها .
لقد أصبحنا نعيش زمناً جديداً تعدد فيه الواحد ليصبح أكثر من واحد، وتعددت فيه الكليات لتصبح أكثر من كيان، وتبعاً لذلك التعدد في الواحد تعدد المفهوم ليصبح أكثر شمولاً وأكثر اتساعاً، فضيق المفهوم والحضارة لم يعد مقبولاً في واقع يعيش تموجاً ثقافيا منفتحاً على الكون المعرفي وعلى الأبعاد الفلسفية للعولمة، لذلك فالقول بالبقاء في النقاط المضيئة للماضي فناء وفناء مضاعف، والذين هم واقعون تحت تأثير المتغيرات الجديدة لن يسعفهم هول اللحظة ودهشتها من التقاط الأنفاس والدخول في دائرة الوعي بالمتغير، فالإيقاع أكثر سرعة ويسير بسرعة البرق ومواكبة ذلك الايقاع لن يكون إلا بالتهيئة النفسية والثقافية والأخلاقية لضرورات الزمن المتسارع الجديد، وحين يتعلق الفرد أو الجماعة أو الحزب في المحددات الثقافية والأخلاقية التي أنتجها الماضي فتلك المقدمة المنطقية ستكون هي الشعور بالاغتراب والشعور بالغياب كنتيجة منطقية في الزمن الآتي من بين غيوم الغيب .