يوم الخميس الماضي دُعيت إلى مجلس مقيل بعض الأصدقاء فاعتذرت له كوني قد دُعيت إلى مقيل آخر، ونتيجة إصراره اضطررت لتوزيع الوقت بين المجلسين، ومن المصادفات العجيبة أني وجدت الحديث في كلا المجلسين واحد، وهو موضوع الصراع على السلطة في البلدان ذات الأغلبية المسلمة منذ سقيفة بني ساعدة – أي منذ وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام – وكان الخلاف بين المهاجرين والأنصار يدور حول الحكم وأيهما أحق به ثم أخذ منحى آخر، أي حول أحقية قريش أم بني هاشم أم كل مسلم أو غير مسلم تتوفر فيه القدرة والكفاءة والتقوى، والحالة الأخيرة مستبعدة في الدولة الدينية، رغم أن هناك من يؤول النص الديني طبقاً لمفهوم العدالة المطلقة فيذهب إلى إعطاء الحق لكل إنسان تتوافر فيه هذه الشروط بغض النظر عن دينه أو مذهبه أو قبيلته تولي السلطة، لأن الدولة الأقرب للعدالة هي الدولة المدنية.
وماتزال هذه القضية إلى يومنا هذا محور الصراع على السلطة والحاكم المتحكم بحياتنا، وكأن عجلة التاريخ قد توقفت عند تلك اللحظة التاريخية، بل إن مستوى نقاش هذه المسألة قد هبط في قرننا الرابع عشر الهجري “الواحد والعشرين الميلادي” عمّا كان عليه الحال في القرن الأول الهجري إلى مستويات يصعب تخيلها، فالخلافات حينها كانت وليدة ظروفها الاجتماعية والثقافية والسياسية، أما في عصرنا الذي وصلت فيه نظرية حقوق الإنسان وتطورات الأنظمة السياسية والدستورية إلى ما وصلت إليه، فإن إثارة مثل هذه القضايا يعد ضربا من الخيال والغفول لا مثيل في واقع وتاريخ الأمم والشعوب والدول !، فقد تجاوزت الصراعات ذات الصبغة الدينية والقبلية على الكرسي في ادعاء الحق الإلهي والحكم الفردي الديكتاتوري المطلق لتنتقل إلى الأنظمة القائمة على نظرية العقد الاجتماعي التي أنتجت تطوراً جوهرياً مهماً أصبح الشعب بموجبه صاحب الحق في السلطة ومصدرها يختار قياداتها السياسية عن طريق الانتخابات المباشرة أو عن طريق برلمان منتخب ويمارس على جميع السلطات التشريعية والقضائية و التنفيذية كل أشكال الرقابة المباشرة وغير المباشرة السابقة والمصاحبة واللاحقة لأداء جميع وظائف هذه السلطات، وماتزال عملية تطوير وتطور الأنظمة مستمرة استمرار الحياة !.
لقد تم تقسيم الوقت بين المجلسين بنجاح، ونظراً لوحدة موضوع الحديث فيهما كما أسلفت فقد انتابني شعور بأن الزمان والمكان لم يتغيرا وجو التشاؤم والإحباط يهيمن على الجميع، والطابع العام للحديث يعطي رسالة مضمونها نفس مضمون النظرية التي تلبس أو يتلبسها ثوب الدين تقوم على تصور مذهبي جامد للحق الإلهي في الحكم وتغليب الروايات المشكوك في صحتها معتمداً على القوة الغاشمة في الوصول إلى السلطة، بدلا عن التداول السلمي – آخر الأساليب الحضارية التي توصل إليها الإنسان – كوسيلة لتجنب الحروب وسفك الدماء، لأن الاعتماد على القوة في الوصول إلى السلطة هو السبب الرئيس في عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي والاقتصادي واستهداف أصحاب العقول الراجحة منذ السقيفة وحتى اليوم، ويحول دون حق الإنسان في تقرير مصيره واختيار حكّامه وفق آلية تتنافس عليها الأحزاب والقوى السياسية تنافساً شريفاً يُجرّم استخدام القوة والمال العام، والاستقواء بالخارج للوصول إليها أو تنفيذ أجندة غير وطنية وغير إنسانية.
ومن أسباب البقاء في هذه الدوامة ودائرتها المغلقة تسييس التاريخ والدين والوقوف عند محطة معينة نستجّر منها عفن التعصب والفكر المنغلق وتبقى الأمة في قبضة الحكام المستبدين، وبذلك يفقد الدين نقاءه والتاريخ مصداقيته، والسياسة دورها، لأن لكل منها مجاله، فالتاريخ والسياسة يعتمدن على العلم والقواعد العلمية في تحليلهما ونقدهما، أما الدين فيعتمد على المعرفة والوجدان، اللذان يغلب عليهما في جميع الأديان العلاقة المباشرة بين الإنسان والخالق والرقابة فيها غيبية وجدانية، أي أنها لا تخضع للرقابة القانونية التي يجب أن تخضع لها سلطات الدولة في أدائها لواجباتها نحو المجتمع.
إن ادعاء الحق الإلهي في الحكم يستند إلى الغيب والروايات المختلفة غير القابلة للإثبات العلمي ولكل مدّع حكاية ورواية وأسانيد من الكتاب والسنة، وكلها محل خلاف، والمشكلة ليست في الخلاف، وإنما في ادعاء كل صاحب رأي أن رأيه مقدس ومستمد من صحيح الإسلام حسب رأيه، وأن من حقه فرضه على الناس بالقوة ومن الصعب إقناعه بأن رأيه يحتمل الصواب والخطأ، بل هو عين الخطأ، لأن ادعاء الحق الإلهي خطأ بلا أدنى شك ودين الله رسالة للعالمين، ولا يمكن للرسالة العالمية أن تقوم على مفهوم ضيّق ولا يقبل ذلك عقلاً، ولكي يكون اختلاف أمتي رحمة كما في الحديث، لابد أن ندع ما هو للدين للدين وما للعلم للعلم ونضمن للجميع حرية المعتقد وحرية البحث العلمي، ليستفيد كل من الدين والعلم من بعضهما بصورة اختيارية حرة، فمجال إدارة سلطات الدولة بالتأكيد مجال علمي بحت وشؤونه تناقش بمقاييس ومعايير الصح والخطأ لا بمقاييس الحلال والحرام التي من اختصاص الله وحده دون أي شريك .
على روح شعبي قرأت البعيد قريباً من الفاتحة
فأيقنت أن القيامة قامت على الظالمين.