> عالم السحروالجمال: جنة الكاريبي أرض الفرح وقبلة السياح
عندما يفكر المرء في كوبا يتبادر إلى ذهنه عالم السحر والخيال الحب والجمال والمغامرة والثورة والنضال ومأْثرة جبال سييرا ماستيرا وصور الثائر العالمي تشي جيفارا ويوم دخول الثوار بقيادة فيدل كاسترو إلى هافانا وهروب الديكتاتور باتيستا إلى الخارج عام 1959م.
ويكمن لغز وسر كوبا في جمالها الأخاذ وطبيعتها الخلابة الساحرة وتنوع وتعدد أصول وثقافة سكانها ذات الأعراق الأوروبية والأفريقية والآسيوية وقليل من السكان الأصليين من الهنود الحمر الذين تعرضوا للإبادة والإذلال على يد الاستعمار الأوروبي بعيد اكتشاف العالم الجديد بضفتيه أمريكا الشمالية الولايات المتحدة وكندا وأمريكا الجنوبية الناطقة باللغة الأسبانية.
وخلال السنوات العشرين الماضية منذ انهيار المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي أكبر حلفاء كوبا مرت الجزيرة الكاريبية بأوقات عصيبة وعاشت حياة صعبة وخاضت تجربة قاسية على كل المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمعيشية وعانت حتى من التغيرات المناخية مع ارتفاع درجة الحرارة بشكل غير مسبوق بفعل ظاهرة الاحتباس الحراري للأرض.
وما يثير الإعجاب أن هذه الجزيرة الصغيرة بإمكانياتها الشحيحة استطاعت أن تتجاوز أزماتها بحكمة واقتدار وأن تخرج إلى بر الأمان وتمكنت من الوقوف على قدميها رغم الحصار الأمريكي الخانق وغياب الدعم السخي للدول الاشتراكية فاجتازت مرحلة خطر السقوط والانهيار الذي أصاب دول المنظومة الاشتراكية والتي انهارت بطريقة درماتيكية مثيرة للاستغراب بعدما بدت وكأنها أشبه بكبيانات وكنتونات كرتونية أضعف من بيت العنكبوت.
معجزة البقاء
لقد ظلت كوبا قوية وشامخة بإباء وعنفوان تشق طريقها بإصرار عجيب وحافظت الثورة الكوبية على زخمها وشبابها دون أن تشيخ أو أن تستسلم لأعدائها كما حدث مع الكثير من الثورات التي أجهضت أو سقطت في بداية المشوار أو في منتصف الطريق فصارت ذكرى فقط.
تتذكرها الأجيال المتعاقبة وتترحم عليها بحزن وألم شديدين.
وأمام السقوط شبه المحتم لجأت الحكومة الكوبية إلى اتخاذ تدابير سريعة وقاسية لمواجهة تبعات انهيار الاتحاد السوفياتي والآثار السلبية الناجمة عن تفكك الكتلة الشرقية.
فأخذت تسلك درباٍ آخر على ذات النهج والمسار للتجربة الصينية الناجحة لتزاوج بين النظام السياسي الاشتراكي واقتصاد السوق ونمط الحياة الاستهلاكية الرأسمالية الغربية بالانفتاح على الاستثمارات الخارجية والسياحة الأجنبية حيث يزور كوبا سنويا أكثر من مليوني سائح والسماح للقطاع الخاص المحلي بممارسة نشاطه الاقتصادي والتجاري بلا قيود تحت رقابة الدولة باستثناء خطر خصخصة الصحة والتعليم.
برجوازية صغيرة
وعلى ضوء هذه التحولات بدأت تطفو على سطح المجتمع الكوبي طبقة جديدة من البرجوازية الصغيرة مع انتشار المطاعم والمحلات التجارية والأسواق الشعبية الخاصة وجني الأرباح من عائدات المنتجات الزراعية والصناعات المنزلية والحرف اليدوية وتحويلات المغتربين وتأجير البيوت والسيارات.
والكثير ممن صادفتهم هنا يسألونني عن المتغيرات الحاصلة في كوبا بالطبع هناك تغييرات على صعيد الحياة الاجتماعية والاقتصادية على وجه التحديد حيث صار من السهل ملاحظة مظاهر الحياة الاستهلاكية على الطريقة الغربية كالاهتمام بالملابس والكماليات والإقبال الكثيف على تناول الطعام الأجنبي والتباهي في امتلاك سيارة حديثة أو دراجة نارية جديدة أو منزل مبني على الطراز الحديث.
ومن مظاهر الحياة الجديدة للكوبيين افتراش الشوارع وانتشار أصحاب البسطات والباعة المتجولين والمروجين لبيع الملابس والمأكولات والمشروبات وكذلك المتسولين والمشردين وملاحظة وجود كلاب ضالة في بعض المدن الرئيسية مثل سنتياجو دي كوبا إلى جانب بروز وظهور مسألة المنافسة على اجتذاب الزبائن فيما يتعلق بأصحاب سيارات الإيجار والمنازل والمطاعم والبوفيات ولكن بأقل حدة وعدوانية وبأسلوب راق إذ لا تسمع صراخاٍ أو تشاهد شجاراٍ وكل شيء تحت رقابة الدولة وأعين المسؤولين وقادة البلد.
ومن مظاهر البذخ السائدة في المجتمعات الغربية الاستهلاكية انتشار ظاهرة تربية الكلاب المنزلية بأعداد كبيرة مع أن دولة مثل كوبا يفضل تربية الحيوانات المفيدة كالخراف والأبقار والدواجن وهذا في الحقيقة ما هو حاصل لدى شريحة واسعة من المجتمع الكوبي فقد لفت نظري اهتمام الناس بالحيوانات والزراعة والاعتماد على أنفسهم لتلبية حاجياتهم من اللحوم والحبوب والرز والخضار والفواكه رغم استمرار الدولة بتوفير متطلباتهم وصرفها عبر البطاقة التموينية.
كما لاحظت ظاهرة أخرى جديدة هي ظاهرة الزواج والإنجاب المبكر بعدما كادت كوبا تدخل مرحلة الشيخوخة نظراٍ لقلة المواليد الجدد وتزايد أعداد المسنين وعزوف الناس عن الارتباط والزواج ليس لأن المهر مكلف لأنه لا توجد لا شروط ولا مهور والمرأة ليست سلعة قابلة للبيع والشراء ومن يدفع أكثر فهي من نصيبه كما هو الحال عندنا فالنساء الكوبيات يتمتعن بحقوق متساوية مع شقائقهن الرجال.
بساطة وتواضع
الكوبيون أنفسهم قالوا لي لقد تغيرنا بنسبة 20% ربما ولكننا مازلنا أكثر شعوب العالم بساطة وتواضعاٍ وفرحاٍ ومرحاٍ رغم كل المغريات ولهث البعض وراء المادة.
وهذا صحيح فالكوبيون أناس ودودون ومحبوث وخدومون فإذا سألت أحدهم عن عنوان منزل الجميع يهب لمساعدتك ويدلونك على أية مكان تريد فهم يحفظون أسماء الشوارع والجولات والحدائق والمحلات والمنازل عن ظهر قلب فالشوارع كلها مسماة والبيوت مرقمة وياليت تكون عاصمتنا ومدننا مخططة ونظيفة مثل عاصمتهم ومدنهم ترى من أين لهؤلاء الناس كل هذا التواضع والمحبة والرحمة والمودة الجميع يحيون الجميع وشارات التحية والسلام مرفوعة دوماٍ إلى الأعلى وكلمة مرحباٍ أو إلى اللقاء حاضرة على كل لسان يحترمون الزائر ويتعاونون مع الغريب حياة الكوبي في سعادة وموسيقى ورقص وغناء وضحك وابتسامه وحياة بسيطة ولكن حلوة.
بشاشة وأخلاق عالية
كوبا الجمال والخضرة والماء والوجه الحسن الرقة والوداعة والبراءة الهدوء والسكينة العامة والنظافة والخدمات الراقية واحترام النظام والقانون فلا صراخ في الشوارع أو المطاعم أو مخالفات مرورية إنها عالم سحري أشبه بالخيال سماء زرقاء صافية غيوم بيضاء ناصعة سماء ماطرة أرض خضراء خصبة ومعطاءة قوس قزح بجميع الألوان.
الإنسان هو كنز كوبا الثمين فالكوبي دمث الأخلاق نقي السريرة أبيض القلب ضاحك مبتسم يجيد فن المزاح والنكتة يعيش حياته البسيطة بتواضع جم الموسيقى تسري في شرايينه مسرى الدم والكوبي يتمتع بثقافة عالية فكوبا واحدة من دول العالم القلائل التي قضت على الأمية منذ خمسينيات القرن الماضي وبشهادة الأمم المتحدة.
وكل هذه الصفات استلهمها الكوبيون من طبيعة أرضهم الطيبة وتعلموها من مبادئ النظام الاشتراكي وتعاليم ومثل الاشتراكية.
في كل مكان تستقبلك البشاشة وحسن المعاملة والناس البسطاء والضحكة المرحة والابتسامة المشرقة والورود والزهور بألوانها المختلفة في كوبا لا وقت للنوم والخمول والكسل وقد جلت وطفت أغلب المحافظات الكوبية الخمسة عشرة من هافانا العاصمة غرباٍ إلى سانتياجو شرقاٍ مروراٍ بمحافظات سانتاكلا وسينفوجوس وسييجو وكاماجوى ولاس توناس وبيامو وكانت أمنيتي زيارة محافظة جوانتانامو حيث تقع بالقرب منها قاعدة جوانتانامو الأمريكية بالإضافة إلى محافظة بينار ديل ريو وجزيرة الشباب حيث درست الإعدادية والثانوية في مدرسة ردفان اليمنية التي تحولت إلى مساكن للمواطنين الكوبيين.
وداع حزين
على كل حال قضيت إجازة رائعة استعدت خلالها حيواتي ونشاطي وعشت أجمل أيام حياتي وعوضت سنوات المعاناة والحرمان وفكرت في تمديد الرحلة لمدة شهر آخر.
ولكن في الوقت الضائع قال لي بعض الزملاء لا تتخم نفسك ودع بعض الحنين إلى كوبا ففعلت بنصيحتهم وعزمت العودة إلى أدراجي فكان الوداع الأخير مؤثراٍ ومبكياٍ وحزيناٍ الجميع يقول لي لا تغب عنا كثيراٍ كما فعلت في المرة السابقة.
شعرت حينها بحزن شديد وقد أطبقت الغصة على حلقي وشلت لساني وأصبحت غير قادر على الكلام انتابتني نوبة حزن وأسى كبيراٍ لفراق كوبا وعائلتي الصغيرة وزملائي الأعزاء وصرت لا أطيق أماكن الوداع والدموع والفراق كالمطارات ومحطات القطارات والحافلات وازداد حزني أكثر في مطار هافانا حيث كانت السماء تمطر بغزارة في لحظاتي الأخيرة وكأنها أم تبكي على فراق ابنها الذي سيرحل إلى البعيد إلى أقصى العالم دون أمل عودته في القريب العاجل وقد لا يعود إلى الأبد.