> روعة المكان ولذة الحياة في أحضان الكاريبي
لا شيء أصعب على الإنسان أكثر من فراقه لأهله وأحبته ووطنه وخاصة إذا كان هذا الإنسان صحافياٍ وشاعراٍ ورومانسياٍ بأحاسيس ومشاعر مرهفة ورقيقة ليظل الحنين الحبل السري الذي يربطه ويشده دوماٍ إلى مسقط رأسه.
وبالنسبة لي فقد تحقق حلمي أخيراٍ بزيارة كوبا وطني الثاني بعد أن ظل إعصار الحنين إليها يجتاحني بقوة ويضرب بعواصفه الهوجاء شواطئ قلبي وضفاف روحي بعنف وقوة طيلة عقدين من زمن الفراق واللوعة والحزن والألم والحلم والأمل.
وبقيت مسألة العودة إلى كوبا ثانية حلماٍ يراودني في صحوي ومنامي وحديثي وذكرياتي وهاجسي ولا تمر مناسبة إلا وعادت ذكريات وطراوة وحلاوة السنوات العشر التي قضيتها فيها تدغدغ مشاعري وتهيج أحاسيسي وإذا ما فاتتني مناسبة ما ذكرني بها زملائي وأصدقائي وأحبائي ولا أخفيكم سراٍ أنني بعد عودتي من كوبا إلى اليمن في 14 نوفمبر عام 1994م بعيد شهور فقط من الحرب الانقلابية الظالمة على الوحدة وجدت البلد عبارة عن قرية خراب ومدينة أشباح فشعرت بالضياع والحسرة والندم على نفسي وعلى بلدي وقضيت سنوات عجاف وأياماٍ وليالي حزينة وموحشة جداٍ جداٍ أختلي بنفسي داخل غرفة مغلقة أستمع للأغاني الكوبية فأستعيد معها الذكريات وتنهمر دموعي بغزارة كالأمطار وأبكي بحرقة شديدة وأنتحب كالطفل التائه في صحراء العرب الجرداء المظلمة والموحشة وكنت أحس أن الجميع يحاولون تفهم مشاعري ويحاولون أن يساعدوني ويقدرون ظروفي ويرثون لحالي يزرونني ويتعاطفون معي.
حنين دائم
وهكذا قضيت سنوات من التشظي الروحي والجسدي فأنا جسدياٍ أعيش في اليمن لكن روحي كانت تسكن هناك في كوبا.
ومن حسن حظي أنني لم أفقد صوابي كما حدث لبعض زملائي وتجاوزت أزماتي بفضل استعدادي الجيد سيكولوجيا قبل عودتي لمواجهة أسوأ الاحتمالات بعدما رسمت في مخيلتي صوراٍ تقريبية لطبيعة الحياة القاسية والعادات والتقاليد البالية والظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة ولا أدعي بأنني تجاوزت محنتي بالكامل إذ من الصعب على المرء الانتقال من بلد متطور مثل كوبا للعيش في دولة متخلفة كاليمن ولذلك فقد ظلت ذكرى كوبا محفورة في ذاكرتي وستظل إلى آخر يوم من عمري.
ولشدة التصافي بكوبا وكثرة أحاديثي عنها صار بعض الزملاء ينادونني بالكوبي فأرد عليهم مازحاٍ: نعم أنا كوبي وقد تركت الأصل لكم. وكثير من الناس بينهم مسئولون كبار كانوا يقولون لي إذا كانت كوبا بهذا الجمال وأنت تحبها بهذا القدر لماذا عدت إلى اليمن ولم تبق للعيش هناك أو تعود إليها وكان جوابي دائماٍ هو أنني تلقيت جرعة كبيرة وتعبئة وطنية زائدة خلال دراستي في جنوب الوطن وكوبا ثم إنني أحب وطني اليمن حتى لو كان جرباٍ وفي الحقيقة فقد أظهرت عدم الجدية في بعض الأوقات للسفر إلى كوبا حتى أنني أضعت فرصتين لزيارتها بدعوة رسمية من السفارة الكوبية بصنعاء لأسباب شتى وفي مقدمتها الجانب المادي والارتباط العائلي وانصرافي لتربية أولادي والاهتمام بعملي.
فرصة للمغامرة
ولكن بمجرد أن لاحت لي الفرصة وتوفرت الشروط اللازمة قررت السفر إلى كوبا وشددت الرحال إلى جنة الكاريبي بدعم وتشجيع من كافة الزملاء الأعزاء في الصحيفة وجميع هؤلاء أكن لهم كل الحب والتقدير والعرفان وأتمنى أن أتمكن يوماٍ من رد الجميل لهم.
وقبيل سفري نصحني بعض الزملاء بالاستعداد جيداٍ نفسياٍ وجسدياٍ والتزود بالطاقة الروحية والمعنوية القادرة على امتصاص قوة الصدمات المتوقعة جراء التغييرات السياسية والاقتصادية التي تجتاح كوبا.
ورغم ذلك قبلت التحدي لخوض مغامرة أخرى في حياتي فالسفر إلى كوبا الأرض البعيدة ضرب من ضروب المغامرة والمعجزة والمحال لبعد المسافة وكلفة الرحلة فالسفر إلى كوبا كبرى جزر البحر الكاريبي الواقعة في أمريكا اللاتينية يتطلب القيام برحلة مرهقة ومملة بعض الشيء لمدة ثلاثة أيام في الطائرة أما أن تسافر على متن سفينة فذلك يتطلب أكثر من شهر ومع ذلك كانت رحلتي مشوقة وتستحق المغامرة وأنا أحب المغامرات بالطبع غادرت مطار صنعاء على الطائرة اليمنية إلى القاهرة الساعة العاشرة مساء 28 ديسمبر بصحبة الأخ سعيد محمد عثمان الذي يعمل موظفاٍ لدى سفارتنا في هافانا ومن القاهرة أقلتنا طائرة مصرية إلى العاصمة الأسبانية مدريد ومنها استقللنا طيران الاتحاد الأوروبي إلى عاصمة كوبا هافانا التي وصلناها حوالي الساعة العاشرة من مساء يوم 29 ديسمبر حيث استقبلنا أحد موظفي سفارتنا.
لقاء الأحبة
وعندما وطئت قدماي أرض مطار خوسيه مارتي الدولي في هافانا شعرت أن أمي قد ولدتني من جديد أحسست بأنني في عالم آخر شممت رائحة البحر الكاريبي المميزة شممت رائحة التراب مع المطر وقضيت ذلك المساء في منزل الأخ سعيد محمد عثمان وفي الصباح التالي أول أيام في هافانا شاهدت صباحات هافانا المشرقة لأول مرة بعد سنوات من الفراق وخرجنا للتجول في الشوارع ثم غادرت المدينة عند منتصف النهار صوب محافظة سانتي اسبريتو وسط البلاد حيث تعيش عائلتي الكوبية استغرقت الرحلة حوالي خمس ساعات وقد وصلت إلى المنزل العائلي في ريف منطقة ماياهيجوي قبيل مغيب الشمس فاستقبلتني أفراد العائلة وأهل الحي بالفرح والزغاريد والصراخ وكان المشهد مثيراٍ حقاٍ فأنا العائد إلى الديار إثر غياب استمر عقدين من الزمن لكن الزمن في هذه اللحظة يلعب دور الموحد لشمل العائلة ولن يستطيع أن يفرق أو يباعد بينها مرة أخرى.
ومن شدة الفرحة والصدمة معا انهارت أمي وأغمي على ابنتها الكبرى بلانكا وبذات الوقت ارتسمت علامات الفرح على شفاه الجميع فكانت الفرحة بفرحتين الفرح بأعياد الميلاد والفرح بعودتي إليهم, وقد تعمدت أن أفاجئهم بزيارتي من دون إعلامهم بعد أعوام من انقطاع حبل التواصل والاتصال بيننا ففضلت عدم إخبارهم بقدومي ولكن كدت أخسر أمي الطيبة, فالمفاجآت الصادمة الكبرى تسبب الموت المفاجئ في حالات عديدة وبالنسبة لهم فالأمر أشبه بالمعجزة وعودتي كانت شبه مستحيلة بل إنهم ظنوا أنني قد مت أو قتلت أثناء الثورة الشبابية السلمية عام 2011م أو أنني قد لقيت حتفي في خضم أحداث عنف أخرى وما أكثرها في بلادنا غير السعيدة حتى أني أحسست وكأني كالعائد إلى الدنيا من الآخرة.. أمضينا احتفالات رأس السنة الجديدة 2014م بالسلا والفرح والمرح بنكهة احتفالية مميزة ومذاق خاص رغم غياب شاعر الحي بيتو والمغني إسرائيل اللذين كانا يطربان الأهالي بأغانيهم البسيطة في مثل هذه المناسبات.