لم تعد العنوسة وترك الزواج ظاهرة مُفزعة في العالم الغربي فقط، بل في العالم العربي، فقد وصلت في الكويت والسعودية نسبة الفتيات غير المتزوجات إلى 30%، والسبب في ذلك، الضغوط الاجتماعية التي تؤمن بأن المغالاة في تكاليف الزواج مرتبطة بالوجاهة الاجتماعية. على أن في المجتمعات الخليجية تجهيزات أخرى سوى المهر تكلف 40% من إجمالي نفقات الزواج كلها، والسبب أن المجتمعات الخليجية تعيش ضمن منظومة المفاخرة والتباهي والرفاهية المادية على حد وصف بعض الدراسات.
ووفقاً لبعض القنوات، فإن العزوف عن الزواج في الأردن زاد بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة حتى وصلت النسبة إلى 45 %، إذ وصل سن الزواج عند الشباب الأردني إلى 35 عامًا، وعند الفتيات إلى 30 عامًا، والسبب الأول الحالة المادية والظروف الاقتصادية التي يمر بها الشباب، ومن ناحية أخرى بسبب كثرة المسؤوليات التي تقع على عاتق الشباب إرضاءً لرغبات الفتاة والعائلة.
وبهذا الخصوص يقول مدير المركز الثقافي الإسلامي في الجامعة الأردنية أحمد العوايشة: «تكاليف الزواج تغلق باب الزواج وتفتح باب الفساد على مصراعيه، وعندما يعزف الكثير من الشباب عن الزواج فهذه ردة فعلهم تجاه ما يشاهدونه من أعباء أو نماذج من أصدقائهم المتزوجين والذين يعانون من تراكم الديون عليهم بسبب الاحتفالات التي قاموا بها لملاءمة المستوى الاجتماعي المطلوب».
والأفظع من ذلك ما يحدث في تونس مثلاً، حيث تعتبر العنوسة لدى الرجال من المواضيع المسكوت عنها على الرغم من استفحالها، إذ كشف آخر الإحصاءات أن عددهم أكبر من عدد العانسات بنسبة قاربت الـ 56 في المئة، من 15 سنة فما فوق، ونسبتهم 52 في المئة من مجموع السكان، فيما تقارب نسبة العانسات 48 في المئة. كما تحتل البلاد بحسب دراسات علمية المركز الرابع دولياً في هذا الأمر.
وفي دراسة لشركة إحصاء خاصة، تناولت الأسباب الكامنة وراء ارتفاع نسبة العزوبية في تونس، تبّين أن مدة الدراسة، وصعوبة العثور على عمل، وارتفاع تكاليف الزواج، وسعي بعض الشباب إلى الحفاظ على استقلاليتهم، مع سهولة العلاقات الحميمية (الزنا) خارج الزواج، تشكّل أهم العوامل.
في المقابل، فإن تغير نظرة المجتمع التونسي تدريجياً نحو ممارسة علاقات محرمة خارج إطار الزواج هو أبرز أسباب العزوف عنه؛ إذ لم يعد من الممنوعات أو المحاذير، مما ساهم في الهرب من علاقاته الرسمية. وبحسب دراسة أعدها الديوان الوطني للأسرة والعمران البشري في تونس، فإن 75 في المئة من الشباب بين 15 و25 سنة مارسوا الجنس خارج إطار الزواج.
ويبدو أن هناك من يسعى لأن يلتحق اليمن بهذه الدول والشعوب التي ضلت طريق الفطرة، وخطئت سبيل السعادة، ولا شك أن تعسير الزواج ظاهرة مستفحلة وخطيرة، إن كانت أخف وطأة، وبنسبة أقل مما هي عليه بعض البلدان الأخرى، ولكن مع ذلك فإنه يجب على عقلاء الأمة، ونخبها، وأهل القرار فيها، أن يتنادوا فيما بينهم لإصلاح ما فسد، واقتراح ما يسد، وترك ما يند.
يعتبر السيد القائد – سلام الله عليه – أن مسألة تيسير الزواج من أهم المسائل على الإطلاق، فهو يقول رضوان الله عليه: «هذه مسألة من أهم المسائل على الإطلاق، في بعض المجتمعات تصعَّبت مسألة الزواج جدا على الشباب والشابات وعلى المحتاجين للزواج، …، الزواج في بعض المجتمعات أصبح أمرا صعبا جدا مع ظروف الناس المادية الصعبة، مع ارتفاع تكاليف الزواج في كل شيء، في بعض المناطق مسألة المهور مرتفعة جدا وما يلحق بها من تكاليف، ما يلحق بعملية الزواج من تكاليف، إضافة إلى المهر، مسألة العرس، المراسيم، كذلك الأشياء الروتينية المعتادة في بعض المناطق من إجراءات والتزامات، وتكلُّف في مسألة الحفلات ووو .. إلى آخره … ، هذه العادة غير حميدة، تصعيب عملية الزواج، وإضافة أعباء كبيرة إليها، والتزامات كثيرة فيها، تجعل منها أمرا معقَّدًا وأمرًا صعبًا، وأمرا يحتاج إلى أموال كثيرة، هذه مسألة غير سليمة ولا صحيحة أبداً».
وبناء على أن ولاية الله على عباده هي ولاية رحمة ومحبة وهداية وخير، وبناء على أن له ملك السماوات والأرض، وبالتالي فله الحق الحصري في تدبير أمورهما وأمور من فيهما، فقد جاءت شريعته سبحانه وتعالى ترجمة واقعية وعملية لهذه الولاية، ولهذا التدبير، فكان ضمن أهم أسس الإسلام ومبادئ تشريعاته هو التيسير والرحمة بهذا الإنسان، وأدلة ذلك كثيرة، منها قوله تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)، وقوله تعالى: (يريد الله أن يخفف عنكم)، وقوله تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج)، وقوله تعالى: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (يسِّروا ولا تُعَسِّروا، وبشِّروا ولا تنفروا)، ومنها: أحاديث الرفق والترفق منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الرِّفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (الرِّفْقُ يُمْنٌ والخُرْقُ شؤمٌ)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا أراد الله بأهل بيت خيرا دلهم على الرِّفق). وهذا أصل راعته الشريعة السمحة، وأساسٌ بنَتْ عليه في جميع تفاصيلها.
تيسير الزواج المفهوم والمصاديق
وعلى هذا الأساس دعا الإسلام إلى التيسير في الزواج، باعتباره البوابة الوحيدة لاستمرار الوجود البشري استمرارا منظّما وهادفا، ولبناء الأسر والمجتمعات بناء سليما، يقيها من الفساد والشرور والعبث والفوضى، وكما حث الإسلام على التيسير بشكل عام فقد حث أيضا في كثير من الموارد على التيسير في الزواج.
وحين نتحدث عن التيسير في الزواج فالمراد به التخفيف ورفع الأثقال والأعباء وتسهيل الطرق والإجراءات للوصول إلى الزواج الشرعي بشكل سلس ويسير. ولا نقصد بالتخفيف هو تقليل المهر فقط، بل تخفيف وتسهيل كل تلك العادات والأعراف والطرق والإجراءات والالتزامات العرفية التي ينشأ عنها الثقل، والعسر، والإعاقة، والتأخر، والديون، والغرامات، والالتزامات الثقيلة، في الزواج؛ الأمر الذي يؤخر الشباب والشابات عن الزواج، أو يمنعهم تماما، ولعمري فإن هذه خطيئة كبرى، ومفسدة عظمى تتسبب في خطيئات ومفاسد أكبر وأعظم وأطم.
فتقليل المهر، والتخفيف من غلواء العادات والتقاليد التي تفرض قيودا ثقيلة على الزواج، وتشكل إعاقات مزمنة في طريقه، وإلغاؤها أو التخفف منها، والتعاون مع الزوج، ماديا ومعنويا، بأي نوع من أنواع التعاون، وتنظيم ذلك، واقتراح الإجراءات والمبادرات الميسرة للزواج، كل ذلك هو ما نقصده بتيسير الزواج، وهذه الورقة تبحث هذا الموضوع من حيثية النتائج المرتبة على التيسير، ومسؤولية الدولة والمجتمع في هذه المسألة.
لماذا يجب التيسير في الزواج؟ وما النتائج التي تتحقق معه؟
بتيسير الزواج تتحقق كثير من النتائج الإيجابية، ومنها:
1 -يتزوج معظم الشباب والشابات الفقراء والفقيرات، ويحققون غاية الله من وراء خلق هذا الوجود البشري، واستمرار وجوده، باعتباره دليلا عظيما على كمال الله وقدرته وحكمته وعلمه.
2 -تغيب كثير من المشاكل والجرائم المترتبة على الحرمان من فطرة التقاء الذكر والأنثى على الشكل الشرعي، فتغيب الأمراض النفسية، والعقد، والهموم، والغموم، وتغيب كثير من جرائم الفواحش، مثل: الزنا، والشذوذ، وجريمة قوم لوط، والخيانات، وما شاكلها.
3 -تستقر المجتمعات، وتسود فيها الطمأنينة، وتحضر الجدِّية في أمورهم وحياتهم، وتغيب اللامبالاة، وبقدر ما تقل الجرائم والمشاكل المترتبة على ترك الزواج والعزوف عنه وعدم القدرة عليه، تستقر المجتمعات، ويسود فيها الخير والطمأنينة.
4 -تيسير الزواج يساهم بقدر كبير في خلق خطوط التقاء بين أفراد المجتمع البشري، ويقرب وجهات النظر، ويعزز المزيد من الأواصر ووشائج القربى.
5 -الزواج مؤسسة اجتماعية تضخ في المجتمع أهم رصيدٍ وأعظمَ مورد، وهو الرصيد البشري، والمورد الإنساني، الثر، والمؤثر، والفاعل، فحين ينجب المجتمع أولادا جددا، فهو إنما يحافظ على ديمومته الناضجة، القوية والفاعلة، ويحارب شيخوخته وكهولته، وحين يكون الزواج ساريا في المجتمع بشكل كبير يحافظ المجتمع على شبابه وعلى إمداد جميع المراحل العمرية بفئاتها الفاعلة.
6 – بتيسير الزواج يتوفر المال الذي يذهب في هذه العادات التي لا حاجة لها، وحينها يتم توظيفه في ما يرضي الله وفي ما يسعد الناس في حياتهم، في غذائهم، ودوائهم، وتعليمهم، وفي مشروعات تُدِرُّ عليهم الدخل المستمر، وفي النهضة بالبلد، والمال مال الله الذي آتانا، ونحن مسؤولون عنه، فلا نستخدمه إلا في ما يرضي الله، وفي وجوهه المشروعة.
وللحديث بقية في الحلقات القادمة