من أعظم القصص التي أثرت عليّ في القرآن الكريم قصة نبي الله موسى (عليه السلام)، فكم تحدث القرآن عن روحية موسى الصابرة والمجاهدة العظيمة وفي تسليمه لله رب العالمين ..كان لديه إصرار عجيب وعزيمة قوية وإرادة صلبة وثابتة بين قوم لا يعقلون ولا يفهمون ولا يتعظون من الآيات والمعجزات الربانية العظيمة التي كانت تحدث لموسى خلال مواجهته لفرعون وجبروته وطغيانه ؛ فلكم عانى نبي الله من نفسياتهم المزاجية ولكم ضرب بهم الله للناس أمثالا لكي تكون عبرة لمن يعتبر ، وضرب الله مثلا للناس المؤمنين المجاهدين في سبيل الله في سورة الكهف مثلا عظيما في الإصرار والصبر الكبير في سبيل الوصول إلى الهدف المنشود و الحصول على العلم على هدي الله ، هذا المثل جسده الله للمؤمنين في هذا النص القرآني العظيم.
«وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا” ؛ بمعنى أنه لن يتراجع ولن ييأس ولن يبالي بالصعوبات والمعوقات وطول الطريق ومعاناة السفر وأنه مهما كان لن يتراجع حتى يحصِّل عبداً من عباد الله الصالحين يفيده علماً وهديا من هدي الله، وقوله: “أو أَمضي حقبا” أي : سنين كثيرة لأبلغ مجمع البحرين ، وواصل يمضي في طريقه تلك بروح صابرة تحمل طاقة معنوية عالية ليس في قاموسها التراجع وعندما بلغ مجمع ما بعد البحرين أو جاوزهما كانت هناك آية أخرى في الصبر : “فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا” ، جاوزا مكانهما الذي كانا فيه حول مجمع البحرين وتجاوزاه إلى غيره ومع ذلك لم يتذمر موسى ولم يشكِ ولم ييأس ولم يتراجع ولم يقل قد تعبنا سنبقى هنا لم نعد نستطيع التقدم وليس بوسعنا أن نواصل فقط، فقد قال : “آتنا غداءنا” لنأكله لقد لقينا من سفرنا هذا تعباً وشدة ، أراد أن يأكلا ويستريحا قليلاً من ذلك النصب ليواصلا الطريق وهنا كانت المفاجأة والآية العظيمة في الصبر وهنا كان الاختبار الإلهي نسيا حوتهما : “قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما إنسانِيه إلى الشيطان أن أذكره”؛ نسي الحوت وكان فيه الآية العظيمة والغرض الذي كان يطلبه موسى (عليه السلام) وكأن النسيان أمر يزيد السفر مشقة ونصبا وتعبا، النسيان يزيد الأمور تعقيداً لأنه نسيان أول أتاح الفرصة للحوت ليرجع إلى البحر، ونسيان ثانٍ سبب تأخير الفتى لذكر هذه الآية لموسى ليتداركوا الأمر سريعاً ومع ذلك لم يعصب موسى ويتذمر ويقل لقد أتعبتني يا فتى، لم يقل يا الله لقد تعبت خلاص إئذن لي أن أعود لا بل، قال : « ذلك ما كنا نبغ فارتدا على ٱثارهما قصصا» ،- قال هذا ما نبغي ونطلب وبهذه الروح المعنوية سيرفع من معنويات فتاه ويزيده حماسا .. لم يثبطه .. لم يخذّله لم يتذمر لأنه يبحث عن هدف عظيم و سام “هدي الله” حتى وصل إلى هدفه ولقي عبد الله ، وفي هذه القصة لم يكن عبد الله يريد أن يعلم موسى خرق السفن ولا قتل الغلمان ولا بناء الجدران .
إنما كان يريد أن يعلمه الصبر على ما لم يحط به خبرا ، أن يسلم لله والقيادة حتى لو رأى أن في ذلك الهلاك ولو رأه منافيا لعقله وفكره ، أراد هذا العبد الحكيم أن يعلم موسى أنه قد يكمن الخير فيما تراه شرا والشر فيما تراه خيرا، وفي هذه عبرة لنا ودرسا في التسليم لقيادتنا الربانية الحكيمة في عصرنا الحاضر، وقد مرينا بمراحل مختلفة وأحداث عظيمة ومعجزات كثيرة وتجلت لنا منها حكمة القيادة وعظمتها كما حدث لموسى (عليه السلام)، وكم حدث بين أوساطنا كمجاهدين في بعض التوجيهات قد يستنكر بعضنا ما يقع أحيانا حين نتساءل كثيرا في بعض التوجيهات ولا نطيق صبرا في ما نرى فيه مشقة وتعبا علينا ثم ظهر لنا في ما بعد أنه خير لنا عز لنا نصر لنا ، وهكذا أخبرنا الله في هذه السورة العظيمة عن أهمية الصبر والإصرار والثبات ونتائجه العظيمة، كما أخبرنا أن قضية التسليم في ميدان العمل في سبيل الله مهمة جداً ولها ثمارها الطيبة، فمثلا لم يظهر لأصحاب السفينة المساكين أن في خرق سفينتهم نجاة وسلامة وأمنا لها وربما لو وجدوا الفاعل في حينه لعاقبوه لكنه كان خيرا لهم ، وكذلك لم يظهر لأهل الغلام الطيبين أن في قتل ابنهم بتلك الطريقة خيرا لهم وأنه سيبدلهم الله بخير منه وربما لو وجدوا الفاعل في حينه لقتلوه ، ولكنه كان خيرا لهم ولحياتهم وآخرتهم.
ولم يعرف الأب الصالح أن هناك من يرعى أبناءه من بعده ويحفظ حقهم ومالهم وميراثهم وكنزهم، ولكنه كان موجودا بترتيب الله الذي ظهر في صورة تبدو للناس أن لا علاقة لها بالموضوع لكنها كانت درساً عظيما، وكذلك موسى الذي لم يطق صبراً بما فعل العبد الصالح ، إنها التوجيهات الربانية فيها الخير لنا والنصر والفلاح وإن كنا لا نراها وإن لم تعجب البعض وإن تعجب منها المؤمنون وتبرم المستعجلون” قضية الصبر في ميدان العمل في سبيل الله قضية التسليم لتوجيهات الله وتوجيهات القيادة الحكيمة الملهمة من الله أمر مهم جداً نحتاج إليه في عصرنا الحاضر وعدم التلكؤ أو كثرة التساؤل والتباطؤ وضرورة الانتظار حتى يأتي التبيان من الأعلام والميدان: “وما فعلته عن أمرى ، ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا”.