اثنان من أكثر المشاهد التي يتذكرها اليمنيون من جريمة “مذبحة العرضي”.. والد يقبض يد ابنه الصغير وآخر يحضن ابنته الصغيرة حين دوى انفجار السيارة المفخخة إيذاناٍ لبدء الفاجعة ومتواليات ما أضحى أبشع كارثة إنسانية عرفها اليمن.
لكن وبقدر حزننا جميعنا على من قضوا في الهجوم الإرهابي الجبان والغادر على مستشفى ومجمع الدفاع في ذلك الخميس الأسود بقدر ما ينبغي أن يكون فرحنا بنجاة من حسبناهم في عداد الشهداء فإذا بهم أحياء ليس عند ربهم بل بين ظهرانينا.
هذا ما تزفه “الثورة” لكل من آلمته بين مشاهد الوجع والفزع التي بثت من فيديو كاميرات مراقبة مستشفى مجمع الدفاع.. صورة الأب القابض بيد ابنه والأب الحاضن لابنته لحظة دوي انفجار السيارة المفخخة على مقربة من بوابة المستشفى.
إنهم خالد السعيدي وطفله وصادق الرهمي وابنته الذين ظهروا ضمن مقاطع الفيديو في الدقيقة العاشرة و3 ثوانُ في مكانين مختلفين.. أربعتهم لا يزالون أحياء بيننا بعدما نجو بعناية الله وألطافه من مذبحة مستشفى مجمع الدفاع.
الرهمي وابنته
كان الرهمي وابنته ذات الأربع سنوات قد استشعرا الخطر مع لعلعة صوت الرصاص في البوابة الغربية لمجمع الدفاع حين باغت الإرهابيون حراسة البوابة وتبادلوا معهم النار قبل أن يردوهم شهداء غدراٍ وغيلة ويقتحموا البوابة.
ومع أن صادق الرهمي –كغيره ممن كانوا في المستشفى- لم يكن يدري ماذا يجري¿.. ولا يتوقع شيئاٍ مما جرى.. إلاِ أن فزع ابنته كان قد تسرب إليه وأيقظ فيه خوف الوالد على ولده فضمها إلى صدره محاولاٍ أن يهدئ من روعها.
بدت الطفلة أكثر خوفاٍ ولم تكد تمض 20 ثانية على احتضان والدها لها وافتراشهما أرضية المستشفىº حتى دوى انفجار ما قدر بنحو 500 طن من “التي إن تي” المتفجرة على متن السيارة المقتحمة لبوابة المجمع الغربية.
باب الله
كان الانفجار عنيفاٍ جداٍ وتجاوزت آثاره المدمرة مبنى المستشفى إلى بعض من المنازل والمدارس المجاورة لمجمع الدفاع. تصاعدت “أغبرة الدمار” حتى حجبت الرؤية فلم يتضح مصير صادق وطفلته وظن كثيرون بمن فيهم نحن أنهم قضوا.
لكن أطباء المستشفى كانوا قد أكدوا لنا أن “ما من أطفال بين الضحايا”. ما أحيا بارقة أمل لدينا في نجاة صادق وابنته وشحذ لدينا همة التقصي. فكانت البشرى حين زف إلينا أحد أقربائه من أفراد الحراسة العاملين في المجمع نبأ نجاتهما.
فتح الله باب نجاة لصادق وطفلته كان مغلقاٍ. فأدى الضغط الناجم عن الانفجار لفتح البوابة المقابلة للدائرة المالية فاستطاع صادق أن يلوذ بابنته سريعاٍ ويغادر المجمع قبل أن يتمكن الإرهابيون من الانتشار في المستشفى وبدء المذبحة.
خالد وطفله
ذلك ما أكده لنا الأب الآخر الذي ظهر مع طفله في بداية مقاطع فيديو كاميرات المراقبة في مستشفى الدفاع التي بثتها اللجنة الأمنية العليا حين اهتدينا إلى نجاته هو الآخر وطفله “محمد” ذي الثلاث سنوات و10 أشهر.
تبين لنا أن هذا الأب يعمل مديراٍ للحسابات في مستشفى الدفاع وأن اسمه خالد أحمد السعيدي (38 عاماٍ) وأن طفله “محمد” هو أول ولدين له حتى الآن. وكادت تحرم منهما “منار” ذات السنتين فقط وأمها بالطبع.
“خالد” الذي يْحضر الماجستير في إدارة التنمية المحلية بجامعة ذمار أخبرنا أنه اصطحب معه ابنه إلى المستشفى في ذلك اليوم ليجري له فحوصات بشأن فتق يعاني منه فإذا به يكتشف أن لديه أيضاٍ مشكلة في الغدد اللمفاوية.
يقول:”كنت وصلت المستشفى في الثامنة والنصف وعرضته على الدكتورة الشهيدة جميلة وعلى دكتور المسالك البولية الدكتور خالد تلها لمعالجة فتق يعاني منه واكتشفت بعد الفحوصات أن لديه أيضا غدد لمفاوية”.
بين الركام
لم يكن قد مضى على انتقال عمل “خالد” من البرنامج الوطني للدواء إلى مستشفى الدفاع سوى عام واحد وقبل برنامج الدواء كان يعمل في المستشفى الجمهوري بصنعاء ولم يكن يتوقع أن يهاجم مستشفى ويقتل من فيه.
يقول:”عندما بدأت اشتباكات البوابة كنت في صالة استقبال المستشفى. توقعت أن تكون مشكلة أمنية وستنتهي. جلست انتظرت تحويلي إلى الكشافة التلفزيونية (الأشعة) وفجأة وقع الانفجار وقذف بي وطفلي إلى آخر الصالة”.
استطاع “خالد” أن يبقي طفله مضموماٍ إلى صدره بين ساعديه اللذين أصيب أحدهما بشظية من الزجاج المتناثر بقوة الرصاص نفسه. يقول:” سلم ابني ولم يفلت من يدي وضعته على ساعدي الأيمن ونهضت أبحث عن ملاذ آمن”.
دمار شامل
لكن “الأماكن كلها لم تكن مناسبة للاحتماء من الرصاص المستمر” قال خالد وتابع:”ذهبت الطوارئ فوجدتها قد انقلبت رأساٍ على عقب وكذلك باقي الأماكن. قصدت الباب المؤدي إلى مبنى التموين الطبي حيث كانت سيارة الإسعاف”.
لم يكن “خالد” وحده من هرع إلى المكان نفسه. يقول:”كثيرون فعلوا مثلي بعضهم دخل المختبر والبعض التموين الطبي لكني صعدت الدرج المؤدي إلى مكاتبنا الإدارية في الدور الثاني فوق عيادتي القلب والباطنية وهناك جلست”.
جلس “خالد” مع آخرين وكان الرصاص يزداد كثافة كما يقول ويضيف:”ثم انضم إلينا هاربون أخبرونا أن مسلحين يرتدون الزي العسكري يقتلون كل من يجدون أمامهم أو يلمحون حركته ويدخلون كل مكان بابه مفتوح ويقتلون من بداخله”.
الدرج ملاذ
“أكثر من ثلاثين شخصاٍ انضموا إلينا في الدرج”. قال خالد وتابع:” أخبرنا من هربوا من التموين بأن المسلحين قتلوا من كانوا في المختبر وأن أحدهم ألقى عليهم قنبلة فأغلقنا علينا الباب وبقينا ننتظر قدرنا.. الموت في أي لحظة”.
لا يستطيع “خالد” نسيان الرعب الذي عاشوه طوال نصف ساعة. يقول:”بقينا مدنيين وممرضين وإداريين واثنين من نواب المستشفى نسمع الرصاص. كان الفاصل بيننا وبين القتلة باب ليس إلا. وكنا نموت في كل ثانية تمر علينا”.
“تشهدنا وهللنا ولم نكن نتوقع النجاة”. قال بنبرة جادة ومضى خالد يقول:” بقينا ساكتين ونسكت من يبكي أو يصيح فزعاٍ. كنا ننتظر أن تصل إلينا قذيفة بازوكة أو قنبلة أو يقتحم أحدهم الدرج ويفتح علينا الرصاص من سلاحه”.
لم نعلم !
كانت لعلعة الرصاص منقذا في الوقت نفسه وفق خالد. يقول: “لم يسمع القاتل صياحاٍ لدينا أو بكاء لم يتنبه لنا بسبب إطلاق النار الكثيف في الشارع وإلا لكانت الكارثة”. يضيف:” لكن أصوات الرصاص جعلتنا لا ندري أن ثمة من يقتل بجانبنا”.
يتحسر “خالد” على من قتلوا قريباٍ منهم أمام سيارة الإسعاف.يقول:”من كثرة إطلاق النار لم نكن ندري أن القاضي النعمان وزوجته والمهندس النعمان وزوجته وابنته والسلفي والحصباني والدكتورة سمية وغيرهم يقتلون بجوارنا”.
بالنسبة لخالد كان الحال ليختلف لو أنه علم. يقول:”لو علمنا كنت بالتأكيد سأخرج ولو لم أكن مسلحاٍ كنت سأخرج لأقاتل بأقوى قوتي ومحاولة منع قتل كل هؤلاء”. يردف بأسى: “لم أستطع أن أتحرك لأني كنت جريحاٍ وأحمل طفلي”.
وحوش مفترسة
لا يجد “خالد” توصيفاٍ مناسباٍ للقتلة يقول:”لو أسميناهم كلاباٍ فإننا نسيء إليها لأن الكلاب تتحلى بالوفاء وبالشفقة ولديها قلوب ومشاعر. هؤلاء وحوشحتى هذه قليلة عليهم. كانوا يقتلون من يجدون بلا رحمة أو شفقة أو تفريق بين رجل وامرأة”.
يضيف:”لو أن أحد هؤلاء الإرهابيين كان جرح لكان أحد الأطباء الذين قتلهم بلا ذنب هرع إلى معالجته.. لكانت إحدى الممرضات اللاتي قتلهن سارعت إلى تطبيب جراحه كما لو كان ملاكاٍ وليس مجرماٍ حقيراٍ بلا أخلاق أو دين أو قيم”.
نجاة مستحيلة!
لهذا يؤكد خالد” أن نجاته وطفله ونحو ثلاثين ممن كانوا في المستشفى ولاذوا جميعهم بالدرج بدت له مستحيلة. يقول:”لم نكن نتوقع الحياة. كان الموت محققاٍ. لكنها ألطاف الله أنجتنا حتى تحين آجالنا المكتوبة لا تتقدم أو تتأخر”.
تأخر الفرج حتى بدأ مجيئه مستحيلاٍ حسبما يؤكد خالد يقول:”بقينا على هذه الحال وبعد نصف ساعة ظهرت قوات الإنقاذ والإسعاف فكتبت لنا أعمار جديدة. لم تكن نجاتنا شطارة منا في الاختباء بل رحمة من الله وإنفاذا لمشيئته”.
بعد وصول الإسعاف خرج خالد وابنه ومن كانوا معهم بسلام. بالنسبة له أسعف إلى العسكري ووصلوا وهو مزدحم فغادره. يقول:”جاء عمي وأخذني إلى مستشفى العلوم وأجروا لي الإسعافات وضربوا لطفلي إبرة لآثار الخوف”.
جراح عميقة
شفي “خالد” من جراحه لكنه مع ذلك يتحدث بحرقة عن جراح عميقة لآخرين. يقول:”الحمد لله سلمنا والحمد لله شفي معظم الجرحى من إصاباتهم. وبقي أصحاب الجراح العميقة”. سألته كم عددهم فأجاب:” أسر 56 شهيداٍ لا ينبغي نسيانهم”.
وتابع:”ما حدث بشع جداٍ لا يستطيع أحدَ تخيله وما عرضته مقاطع الفيديو لا يصور إلا جزءاٍ يسيراٍ جداٍ من الجريمة البشعة. ومن قضوا كانوا يؤدون واجبهم حين قتلوا غدراٍ وخلفوا وراءهم أطفالاٍ معظمهم دون الخامسة”.
يرى “خالد” أن مصير ابنته “منار” فيما لو كان استشهد ما كان ليختلف عن مصير أي طفل فقد أحد والديه. يقول:”رغم أن والدي لا يزالان على قيد الحياة ولدي سبعة إخوة لن يقصروا إلا أن الأب لا يعوض وحنانه لا بديل له”.
ثمة أمنية تبدو وحيدة لـ “خالد” يلخصها في أن تحظى أسر شهداء الجريمة وكل شهداء الواجب باهتمام ورعاية الدولة التي “تضمن لأطفالهم الحياة الكريمة التي يستحقونها وكان عائلوهم سيوفرونها لهم أو يحلمون بتوفيرها لهم”.
تركنا “خالد” وهو يردد: “ما حدث ليس قليلاٍ ولا بسيطاٍ.. ليس هيناٍ بالمرة. إنه حدث جلل وجريمة شنيعة”.. مطالباٍ بـ “كشف نتائج التحقيق مع من اعتقلوا من الإرهابيين وتقديمهم والمتواطئين معهم للعدالة فدماء اليمنيين يجب ألا تذهب هدرا”.