قمة الانقلاب الاستراتيجي في الإقليم (ج3)

 

أحمد عز الدين

لماذا انتقلت الأكتاف الخليجية ببنادقها ، إلى الكتف الإسرائيلي الآن ، وما الذي يشكله هذا المفصل الخطير في المرحلة الأخيرة من الإستراتيجية الأمريكية ؟
في فبراير 2013 وعندما كان الإخوان يجلسون على سدة الحكم في مصر ، أعطى هنري كيسنجر حديثا مطولا لصحيفة ( الديلي سكيب ) عن المرحلة التالية في الإستراتيجية الأمريكية ، وكانت أهم خطوطها بألفاظه :
1- لقد أبلغنا الجيش الأمريكي أننا مضطرون للسيطرة على سبع دول في الشرق الأوسط ، لأهميتها الإستراتيجية لنا ، وللتحكم في مواردها الاقتصادية .
2- إذا سارت الأمور كما هو مخطط لها ، فسوف يكون نصف الشرق الأوسط لإسرائيل .
3- لن تتبقى غير خطوة واحدة ، وهي ضرب إيران .
4- عندما تستيقظ روسيا والصين بعد ذلك سيكون الانفجار والحرب الكبرى .
بعدها بشهر واحد ( مارس 2013 ) كان الجنرال مارتن ديمبسي رئيس قيادة الأركان الأمريكية المشتركة يقدم في حديث تليفزيوني شرحا تفصيليا للمرحلة الأولى في خطوط الإستراتيجية الأمريكية التي طرحها كيسنجر وكانت على النحو التالي :
1- ستصبح مصر أكثر أهمية للإستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط بعد سقوط ( بشار ) وتشكيل حكومة سنية في سوريا .
2- سيعني هذا اكتمال قوس سني يقف في مواجهة العالم الشيعي بقيادة إيران .
3- سيتكون هذا القوس من : سوريا – مصر – ليبيا – تونس – المغرب – دول الخليج .
لم يكن دور إسرائيل مكشوفا في السعي إلى صياغة التحالف الإقليمي الجديد ، ولكن مجلس الأمن القومي الإسرائيلي عبّر عن وجوده بعد ذلك بسنوات ( يناير 2017 ) في تقرير له تضمن من بين مفرداته ما يتعلق بألفاظه ( كسب تحسين الموقف الإستراتيجي لإسرائيل ) فقد ربطه باندماج إسرائيل في الصراع السني الشيعي ، وفي ضمور فكرة القومية العربية ، وفي انتشار الفوضى ، وفي كسب وكلاء أمنيين ودائمين في الإقليم ، غير أن ثورة 30 يونيو جاءت بعد ذلك لتشكل قنبلة شديدة الانفجار في وجه هذه المرحلة من الإستراتيجية الأمريكية ، التي تم بناء قاعدتها الأساسية على وجود جماعة الإخوان المسلمين ، على قمة النظام في مصر ، وسقوط النظام في سوريا ، ثم كانت المفاجأة الصادمة الأخرى باستحواذ روسيا على المبادرة الإستراتيجية في سوريا ، في ظل عملية تعمية إستراتيجية كاملة ، بعد أن أكدت المعلومات أن عملية عسكرية هجومية مشتركة بين قوات أمريكية وبريطانية وفرنسية وتركية توشك أن تقع لإسقاط النظام وترك سوريا تعوم في الفوضى ، ومن ثم تقسيم أطرافها واستيلاء جماعة الإخوان المسلمين على قلبها ، ومع محاولة احتواء المتغيرات هنا وهناك ، سواء بتصعيد العمليات الإرهابية وبغير ذلك من أدوات الإكراه السياسي والاقتصادي والاجتماعي ، أُجبرت عجلة الإستراتيجية الأمريكية على أن تبطئ من اندفاعها مع تعميق للدور التركي باندفاعات قوية باستخدام القوة المسلحة ، سواء في سوريا أو العراق ثم بعد ذلك في ليبيا بإرادة أمريكية كاملة .
وعلى أرضية نفس هذه المرحلة من الإستراتيجية الأمريكية ، وإذا كان الدور التركي سواء في شمال سوريا أو العراق بالغ الوضوح ، ففي التوقيت ذاته ( مايو 2013 ) وقعت تركيا مع أثيوبيا اتفاق دفاع مشترك وافق عليه البرلمان الأثيوبي في مارس 2015 ، وبحسب البيان الختامي لهذا الاتفاق ، فقد تعهدت تركيا بنقل خبرتها في بناء السدود إلى أثيوبيا ، وفي الدفاع عن سد النهضة ، ضد أي تهديد وتعهدت بحماية بناء السد بواسطة رادارات تركية للإنذار المبكر ، وبنظام دفاع صاروخي تركي إسرائيلي مشترك ، ولم تكن تلك هي الاتفاقية الوحيدة ذات الطابع العسكري ، فقد وقعت الإمارات بعد ذلك بأربع سنوات ( نوفمبر 2019 ) اتفاقية تعاون عسكري مع أثيوبيا عندما كاد البنك المركزي الأثيوبي أن يكون مفلسا إلا من 3 مليارات دولار أودعتهم الإمارات ، فقد كان سعيها منذ البداية هو كسب أثيوبيا في صيغة تحالف إستراتيجي في القرن الأفريقي ، سواء بدعم عسكري أو سياسي أو اقتصادي .
لقد كان إدراك مصر للمخاطر المترتبة على ذلك مبكرا ، بما في ذلك ما يتعرض له النظام الإقليمي العربي من ضغوط جانبية ورأسية لتفكيكه ، وهكذا تقدمت برؤيتها لتشكيل قوة دفاع عربية مشتركة ، تعيد إلى هذا النظام جانبا من تماسكه في مواجهة خطر انفراطه ، ومع أن الرؤية حظيت بإشارات قبول من دول الخليج ، ترتب عليها انكباب مصر لشهور في صياغة الوثائق الخاصة بالقوة تشكيلا ومهاما وإدارة ومسرح عمليات ، إلا أنه قبل يوم واحد من اجتماع مقرر لرؤساء أركان جيوش الدول المشاركة في القوة للتوقيع على بروتوكولها ، جاء الاعتذار عن الحضور مباشرا من جانب السعودية ، وهكذا طويت الأوراق ، وجفت الصحف ، وترك النظام الإقليمي العربي لمصيره المحتوم .
لقد استبق ذلك مباشرة الدخول في المرحلة الثالثة من الإستراتيجية الأمريكية ، وكانت صيغتها المباشرة هي الحرب على اليمن التي جمعت بين نمطين للحرب ، الحرب في الداخل باستخدام الفرقاء ومجموعات مستأجرة من الإرهابيين ، والحرب من الخارج مع توسع هائل في استخدام القصف المساحي من الفضاء .
غير أن الحرب على اليمن لم يتم التعامل معها إستراتيجيا بثقلها كعنصر أساسي في إعادة بناء الإقليم على المستوى الجيواستراتيجي ، وفي تمكين إسرائيل من بنيته فوق مسرح عمليات لا يطول باب المندب كممر إستراتيجي حاكم بالغ التأثير في أوضاع قناة السويس فحسب ، ولا في شمال البحر الأحمر وتأثيراته الإستراتيجية الممتدة جنوبا وشرقا ، والتي تطول القرن الأفريقي كله وامتداداته حتى المحيط الهندي ، لكن الأمر في مجمله لم يكن بعيدا عن سوابقه بفتح ممرات جديدة للدخول في المرحلة الأخيرة من الإستراتيجية الأمريكية ، ومن تطويق مصر بجملة من التهديدات الكبرى ، تطول كافة محاورها الإستراتيجية .
إن الحرب على اليمن تحتاج في وضعها الراهن بعد ست سنوات من التدمير الإبداعي ، إلى وقفة خاصة سوف يأتي أوانها ، ولكن حسبي في هذا السياق المتصل ، أن أشير إلى أمرين ، الأول هو تلك التحولات الدرامية في المواجهات التي كان تقديرها أن تنجز أهدافها الإستراتيجية في مدى يحسب بالأسابيع ، لكن بيئة المقاومة في الداخل تسلحت بأمرين ، إرادة قتال لا تلين ، وقدرة فائقة على امتصاص الخسائر ، حد أن العنصر الأخير قد دخل بفضل المقاومة اليمنية إلى معادلات عسكرية جديدة ، كعنصر مضاف لحسابات موازين القوى ، الثاني هو حجم الإغراءات الكبيرة ثم الضغوط الهائلة ، التي تعرضت لها مصر لكي يكون لجيشها يد طولى في أعمال القتال هناك ، ومع أن الإغراءات قد تم رفضها ،والأعباء قد تم تحملها ، فقد كانت بعض صور الانتقام الأرعن هي قصف تمثال الجندي المجهول للجيش المصري في صنعاء وقتل حارسه وزوجته و أبنائه .
لقد استبق ذلك محاولة أخرى ، لدمج مصر في حلف عسكري يمكن لإسرائيل بحسب أوراقه أن تندمج فيه ، بعد عام واحد من تأسيسه تحت اسم ( تحالف البحر الأحمر والخليج العربي ) وقد اتسعت سنوات مناقشة مشروع التحالف المذكور حتى آخر زيارة لوزير خارجية مصر إلى الولايات المتحدة التي كانت مخصصة دون إعلان لإبلاغ الإدارة الأمريكية أن مصر ترى أن ظروفها لا تؤهلها للانضمام إلى هذا التحالف .
وخلال ذلك أيضا وربما قبله بقليل كان ( موردخاي كيدار ) وهو عقل مركز بيجن السادات للدراسات الإستراتيجية في جامعة بار إيلان هو الذي يتحدث عن محاولة أخرى لضم إسرائيل إلى اتفاقية دفاع مشترك مع السعودية ، وحسب قوله : ( فإن سعار الخوف وصل إلى اقتراح سعودي بوضع اتفاقية دفاع مشترك مع إسرائيل ) أما رد – كيدار – كما أوصى به بألفاظه فقد كان : ( أحذر من اتفاقية دفاع مشترك مع هذه الدولة لأنها لم تحترم اتفاقية الدفاع المشترك مع العراق بل وعملت ضدها )
هكذا كانت الحركة عارمة ، على كافة المحاور الإستراتيجية والمواقع الحاكمة ، للدخول في قمة الإستراتيجية الأمريكية ، ومع ذلك لا يشكل كل ما سبق سوى نصف إجابة على السؤال الأساسي الذي احتل مقدمة هذا المقال .
(البقية في الجزء الرابع)
*كاتب صحفي مصري

قد يعجبك ايضا