فلسفة الحكم في التصور الشعبي
عبدالرحمن مراد
عَرفَ الإنسان في اليمن الدولة والنظام منذ وقت مبكر في التاريخ، لذلك كانت النواميس – القوانين – التي تركها من أرقى النظم لكنها لم تدرس بالقدر الذي يجعلها في المكانة التي تليق بها، كما أن الإنسان في اليمن – بحكم تراكم الخبرات – ترك فلسفة خاصة في الحكم ظلت طي النسيان ولم يبق منها إلا كلمات متناثرة تجري على ألسن الناس مجرى الأمثال .
وسوف نستعرض بعضا منها في هذه العجالة وهي تشير إلى الإرث الكبير للإنسان, ففي تأريخ اليمن وخاصة من حين ظهور النزعة الاستقلالية عن الدولة العباسية في أوائل القرن التاسع الميلادي ثمة صراعات كان جوهرها يبحث عن الاستقرار النفسي والاجتماعي، لذلك كانت مصارعة إمام بإمام أو إمام بملك أو ملك بإمام أنفع الوسائل للتخلص من الاستبداد، ذلك لأن القبيلة تؤمن في قرارة نفسها “أن حرب القبيلي على الدولة محالة” تلك الاستحالة النفسية والذهنية وجدت لها بدائل، يقول البردوني: ” لهذا لجأت كل قبيلة إلى خلق دولة من إمام تصرع به إمام قبيلة أخرى لكي تتخلص من الكل أو لكي تجد من يعرف أمانة الحكم وعظمة المسؤولية”.
إلى أن يقول “إن من طبيعة السلطة أن تفسد كل شيء والسلطة المطلقة أقرب إلى الانحلال والفساد، لأنها تنغلق عن الرأي العام وتعمى عن حركة الواقع من حولها، فتفعل ما تريد لا ما يجب أن تفعل، لأنها تنفذ كل شيء باسم التسلط لا بضرورة التنفيذ ودواعي الضرورة الوطنية”.
وفي ذلك التأريخ كان هناك نوع من التمايز الطبقي وإلغاء الوجود وعدم المشاركة، وهو ما عبرت عنه القبيلة بقولها: “الصنو .. شق الصنو.. والقبيلي يوخر شوية”
يقول البردوني في سياق حديثه عن المثل الشعبي الآنف ذكره، أنه أدق تسجيل لبواطن نفس المتسلطين وأبرع سخرية بافتعال الامتياز”
ويقول: قد يؤدي اليأس إلى القنوع حتى من المحاولة فيوهم الشعب نفسه أنه مقتنع بما يجد.. لكن هذا الإيهام يُعبّر عن الرفض بطريقة عكسية” والطريقة العكسية التي قال بها البردوني لا أظنها تخرج عن ظاهرة عدم الاستقرار في حاضرنا لأنها تعبير عن رفض الواقع وبحث عن العدل والوجود والكمال.
والكمال قضية جوهرية في فلسفة الحكم عند القبائل، يقول مثلهم السائر:
“إما حمولة وسيرة بالكمال، وإلاّ خليت الحمايل لأهلها”
يقول البردوني “في المثل رفض للتوسط فإما الكمال وإما لا.. لكن ما هو الكمال؟ هو بذل أقصى المستطاع وإفساح المجال لاقتدار الآخرين لكي يتآزر الكل للكل بدليل عبارة “خليت الحمايل لأهلها” هكذا بصيغة الجمع لغياب إمكانية كمال الفرد”.
ويرى أنّ الأمثال تشكل نظرية شروط الحاكم كمسؤول عن غيره ومختار من قبل غيره لتوسم الكمال فيه.
وتأسيساً على ما سبق يمكننا القول إنّ ظاهرة الارتهان والعمالة التي وجدت مناخاً متشابهاً مع المناخات التاريخية لها، هي تطور لقيم الصراع في المجتمع وهي نتاج فلسفة اجتماعية تبحث عن الكمال في الفرد فإذا عجزت، بحثت عنه في غيره بما يحقق وجودها ويشعرها بأهميتها وفاعليتها.
إذن نحن أمام إشكالية ثقافية وجدت في العمالة وجوداً وصدىً واعترافاً كلما كان واقعها ناقصاً لا يلبي طموحات الكمال فيها.
لقد كان الصراع تعبيراً عن حالة نقصٍ يشعر بها الفرد والجماعة وهو معادل موضوعي لبلوغ الكمال أو نشدانه.
ويشكل غياب العدل الاجتماعي أحد العوامل للشعور به، كما أن فقدان القيمة يعد عاملاً أساسياً في تنامي هذه الظاهرة واللجوء إليها، ويعزز كل ذلك ممارسة السلطة وسلوكها العام الذي يتناقض كلياً مع الخطاب الإعلامي والخطاب السياسي ذلك لأن السلطة منذ تحالفها مع الشيخ في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات غضت الطرف عن القانون في مقابل تعزيز قيم العرف والاعتراف بسلطة الشيخ، بل إن حرب صيف 94م أفسحت المجال واسعاً أمام هذا التحالف وأعادت إنتاجه في المحافظات الجنوبية وتحوّل الوطن على إثر ذلك إلى غنيمة وفيد يتقاسم مقدراته المتحالفون من أولئك المنتمين إلى المؤسسة العسكرية وإلى فئة المشائخ.
أمام هذا الواقع لم يجد الشعب بداً من رفضه بالطريقة العكسية التي عبر عنها البردوني وكان الصراع تعبيراً عن ذلك الرفض وبحثاً عمن يعرف أمانة الحكم ويقدس عظمة المسؤولية، ثم توالت الأحداث من 1999م إلى 2004م، حين أعلن أنصار الله عن أنفسهم باسم الشباب المؤمن وخاضوا حروباً متعددة كامتداد تأريخي لما دأبت عليه القبيلة من مصارعة إمام بملك أو إمام بإمام للتخلص من الاستبداد ومصادرة حق الآخر في الحياة والعيش الكريم، وهي بذلك تكون قد خلقت دولة حسب تعبير البردوني، لإيمانها بأنَّ “حرب القبيلي على الدولة محالة”.
وأمام كل طارئ تجد القبيلة نفسها في محك الحديث ذلك لأن غياب السلطة والدولة يفرضان عليها معالجة قضاياها وفق ما تمليه عليها مفردات الواقع اعتزازاً بكيانها وتحقيقاً لقيمتها، واختطاف الأجانب الذي لجأت إليه القبيلة مطلع الألفية لم يكن إلا إجراءً متطوراً لظاهرة التقطع الذي تنتهجه القبيلة في أخذ حقوقها من الآخر، وعندما شعرت أنه لم يعد يجدي شيئاً لاستهانة السلطة به وعدم تفاعلها معه لجأت إلى الأجانب لما يمثل ذلك من إحراج للسلطة واستجابة سريعة للمطالب، وهي بذلك الفعل تلجأ إلى حيلة المضطر التي لا يسعها إلا ركوبها منطلقة في ذلك من قولها: “حيي الضيف وحسك على السيف”
هذه المزاوجة بين التحية الكريمة للضيف واستلاب الحرية هي في ظاهر الأمر متناقضة لكن جلَّ الأحداث دلّت على عدم تخلي القبيلة عن قيمها، وقد أكدّ المختطفون على ذلك وقالوا إنهم وجدوا معاملة حسنة لا تنتقص من إنسانيتهم ولا تحط من كرامتهم.. ومن هنا نستطيع القول إن الاختطاف الذي شاع مطلع الألفية الجديدة لم يكن بقصد الإساءة إلى الدخيل الوطني – حسب تعبير القبيلة – ولو أنّ جلَّ مقولاتها تدعو إلى الحذر وأخذ الحيطة منه، حيث تقول: (ما من دخيل عافية ولو جاك بزاده وماه)
وهو مبدأ راسخ في المدخل الثقافي، والدخيل هنا على حالين :
الحال الأول : الربيع وهو الذي يطلب حماية القبيلة من غير أبناء القبيلة
والحال الثاني : الدخيل الأجنبي، وقد تحدث التاريخ عن موقف القبيلة من غزو الأتراك بما يجعل الصورة أكثر وضوحا للرائي .
يقول البردوني “هذا المثل يفصح عن عجز الأصلاء على دفع الدخلاء فهو لا يدعو إلى طرد الدخيل وإنما يعطي فكرة عنه” لذلك فمبدأ التعايش السلمي مع الآخر مبدأ أصيل في عرف القبيلة اليمنية وفي أعرافها ما يوجب منح حق اللجوء إليها والاعتصام بها ولها في ذلك قواعد في كيفية معاملة من يلجأ إليها وتكون ملزمة على توفير سبل العيش الكريم لمن تمنحهم حق اللجوء، ولعلها بذلك تكون قد سبقت المجتمع الدولي في إقرارها حق اللجوء في أعرافها للراغبين فيه. بيد أن موقف القبيلة من الدخيل واضحة كما ينص المثل بعدم الفائدة وانتفاء الخيرية من وجوده وهذا أمر نشهد تفاصيله اليوم في مجريات الأحداث وفي موقف القبيلة من العدوان على اليمن، فهو ضد العمالات وضد الارتهان .
وتأسيساً على ما سبق يمكننا القول أن القبيلة اليمنية ليست بدائية إلى الدرجة التي تلغي قابليتها للتمدن ولا هي متوحشة إلى الدرجة التي تلغي رغبتها في وجود دولة مؤسسات تحمي حقوقها وتكفل لها مواطنة متساوية، فنواميس الدولة التاريخية لها مدلول كبير على النزوع إلى الانتظام وتأسيس دولة قوية وعادلة .