قبيلة مراد وانتماؤها التاريخي إلى الهوية الإيمانية

التاريخُ يصنعُ وَعْيَنَا (36) " الحلقة الأولى "

 

حمود عبدالله الأهنومي
“مراد” قبيلة مذحجية يمانية، ذات شأن كبير، كان لها صيت في الجاهلية، وغناء عظيم في الإسلام، تاريخها زاخر بالمجد والخير والفضيلة والعلم والشجاعة والمشاركة الفاعلة والهامة في المسيرة الحضارية اليمانية الإيمانية، لكن مرتزقة العدوان السعودي الأمريكي اليوم يحرصون على تغييب هذا الجانب المشرق والوضَّاء من تاريخ هذه القبيلة الأصيلة.
ينتشر وعاظ العدوان ومهرجو الإخونجيين في أحياء مراد وفخائذها ليذيعوا فيهم أن الحوثيين قادمون إلى مأرب، للانتقام من قبيلة مراد؛ إذ قتل عبدالرحمن بن ملجم المرادي الإمام علي بن أبي طالب، وقتل الشيخ علي ناصر القردعي الإمام يحيى حميد الدين؛ وهو أمر يجد صداه في بعض الأوساط التي لا تعرف التاريخ الحضاري لهذه القبيلة، ولا يعرفون أخلاق وقيم المسيرة القرآنية، التي من أهم مبادئها: (ولا تزر وازرة وزر أخرى).
وإنه أيضا لمن الظلم الشديد أن يُخْتَزَلَ تاريخ هذه القبيلة العريقة في هاتين الشخصيتين (ابن ملجم، والقردعي)، ومن الخطأ الفادح أن تقيَّم القبيلة أو الجماعة إيجابا أو سلبا على أساس وجود رجل صالح أو سيئ ينتمي إليها، وإن من الأخطاء القاتلة أن يستمر البعض في إصدار أحكام عامة على القبيلة أو المنطقة؛ استنادا إلى بعض الحالات التي لا تعكس الملمح العام، فإذا كان قاتل الإمام علي مراديا، فلا يعني هذا بأي حال من الأحوال أن كل أفراد قبيلة مراد المعاصرين له كانوا قتلة للإمام علي، فما بالنا باللاحقين لهم.
ذات مرة في 2014م استأجرت سيارة (تاكسي)، وإذا بصاحبها شاب صبيح من قبيلة مراد، فتجاذبت معه أطراف الحديث، وطوّفت وإياه في أنحاء التاريخ، فجرى ذكر عبدالرحمن بن ملجم المرادي، فروى لي ذلك الشاب أن ابن ملجم ليس مراديا إلا بالولاء، وهو الأمر الذي ترجّح لي لاحقا بعد البحث في كتب التاريخ، وقد أعجبني أن حزت هذه المعلومة التاريخية من ذلك الفتى المرادي. ولما عدت إلى مصادري وجدت المؤرخين يذكرون أن عبدالرحمن تجوبي الأصل، وتجوب من حمير، وأنه فر إلى مراد وتحالف معها، فنُسِبَ إليها بالولاء، ولهذا قال الإمام علي: «إنما يقتلني رجل خامل الذكر، ضئيل النسب، غيلة في غير مأقط حرب، ولا معركة رجال».
وعلى افتراض أنه مرادي أصيل فلا علاقة لمراد الأولين ولا الآخرين بمقتل الإمام علي لا من قريب ولا من بعيد، ولا يحمل أيٌّ منهم أية جريرة من ذلك، وبالتالي فمن الغباء التصديق للعنصريات اللعينة التي يعزف على موَّالها وعَّاظ الإخونجية في أوساط القبائل.
لقد تصفَّحْتُ بعضَ وريقات من تاريخ هذه القبيلة الشماء، فوجدت لها ذكرا يطاول عنان السماء فخرا ومجدا، وهئنذا موردٌ بعضاً من تلك الصفحات المشرقة والوضاءة التي تبرهن على الانتماء الإيماني الأصيل لقبيلة مراد على مر التاريخ.
وقبل ذكر ذلك يجدر الذكر بأن مراد بلاد واسعة، تتصل ببلاد رداع من الجنوب، وببيحان من الشرق، وبخولان العالية وبلاد الحدا من الغرب، وبناحية الجوف من الشمال، وبطونهم كثيرة، وإليها تعود قبائل الحدا، وقيفة، ورداع، ولهم أدوار رائعة استمرت على مر التاريخ.
في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اشتهر لهم زعيمان كبيران أحدهما فروة بن مسيك الغطيفي، عدَّه ابن حبيب في جملة الجرَّارين في الجاهلية، أي الذين قاد كلٌّ منهم ألفاً، وقد وصل على رأس وفد من مراد إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السنة التاسعة للهجرة، وأعلنوا إسلامهم، وقد نزل على سعد بن عبادة، ثم غدا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو جالس في المسجد فسلم عليه, ثم قال: يا رسول الله أنا لمن ورائي من قومي، وكان يحضر مجالس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتعلم القرآن وفرائض الإسلام وشرائعه. فأكرمه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأجازه باثنتي عشرة أوقية، ومنحه بعيراً نجيباً، وحُلَّةً من نسيج عمان، واستعمله على مراد وزبيد ومذحج، وقد قطن صنعاء، وبنى خارجها مسجد فروة، وباسمه سمي الحيان من أحياء صنعاء: فروة ومسيك.
والآخر هو قيس بن المكشوح المرادي سيد زاهر بن مراد، بل كان من سادات مذحج حتى أنه كان يتوعَّد خاله عمرو بن معدي كرب الزبيدي ويناقضه في الجاهلية والإسلام، ويعتبر نفسه نديدا له، وهو الذي فتك بالأسود العنسي وقتله بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم صار من الفاتحين، ثم من أنصار الإمام علي في حروبه.
وممن وفد على رسول الله شريك بن سمي الغطيفي، الذي صار في طليعة الفاتحين لمصر، وعلقمة بن يزيد بن عمرو الغطيفي، والجعد بن قيس الغطيفي، والنعمان بن جرير الغطيفي وأخوه هانئ، أما جديع بن نذير المرادي فقد صحب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وخدَمَه، ومثله صفوان بن عسال الربضي الزاهري المرادي هاجر إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لطلب العلم، وغزا معه 12 غزوة.
ومنهم أويس بن عمرو القرَني المرادي، من التابعين الزاهدين، روى ابن سعد والحاكم عن عمر بن الخطاب أنه قال لأويس القرني: استغفر لي، قال: كيف أستغفر لك وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إن خير التابعين رجل يقال له: أويس القرني)، وقد شهد مع الإمام علي معركة صفين، قال الأصبغ بن نباتة: شهدت عليا كرم الله وجهه يوم صفين يقول: من يبايعني على الموت؟ فبايعه تسعة وتسعون رجلا، فقال: أين التمام، فجاءه رجل عليه أطمار صوف محلوق الرأس، فبايعه، فقيل: هذا أويس القرني، فما زال يحارب حتى قتِل. وقبره اليوم معروف في منطقة صفين، في محافظة الرقة شرق سوريا.
ومنهم شريك بن عبد يغوث بن عمرو الغطيفي المراد، شهد القادسية، وهو الذي ضرب رأس رستم، قائد الفرس بالسيف. ومنهم زائدة بن سمير بن عبدالله الجَمَلي المرادي شهد مع الإمام علي بن أبي طالب النهروان، وقتل فيها. ومنهم الأسود بن يزيد الجملي المرادي، كان من أصحاب الإمام علي، وشهد مشاهده الجمل وصفين والنهروان. ومنهم كعب الأسلع بن عمرو الجَمَلي المرادي قتله معاوية بن أبي سفيان يوم مرج عذراء، مع حجر بن عدي الكندي؛ لمعارضتهم سب الإمام علي عليه السلام على المنابر. ومنهم جياد بن الحارث السليماني المرادي، استشهد مع الإمام الحسين بن علي بالطف.
وقد ذهب بالفخر كله زعيم مذحج وسيد مراد، هانئ بن عروة المرادي المذحجي، لما طلب منه عبيد الله بن زياد أن يسلمه ضيفه مسلم بن عقيل بن أبي طالب، سفير الإمام الحسين إلى الكوفة، فرفض هانئ المرادي هذا الطلب انطلاقا من قيم الإجارة والنجدة العربية والمروءة والشهامة، وقال: «أنا أجيئك بضيفي تقتله؟»، ولمّا تدخل مسلم بن عمرو الباهلي لإقناع هانئ بتسليم مسلم بن عقيل تشدد هانئ في الرفض، وقال: «أنا أدفع جاري وضيفي وأنا حيٌّ صحيح أسمع وأرى شديد الساعد كثير الأعوان»، ثم انتهى به الأمر أن قُتِلَ شهيدا ضحية إيمانه وكرمه ونجدته، ونصرةً للإمام الحسين بن علي عليه السلام.
وهكذا يتضح أن مرادا في فجر الإسلام كانوا من السباقين إليه، وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وصحبه بعضهم، ثم كانوا من المجاهدين والفاتحين في الفتوحات، ثم كانوا في صف الإمام علي عليه السلام، وقاتلوا معه، ونصروه، ونصروا ولده الإمام الحسين عليه السلام، وقد أسس هذا الدور العظيم للاحقين منهم للاستمرار في هذه الطريق حتى يومنا هذا، كما سيتضح في الحلقات القادمة.
يتبع في الحلقة القادمة

قد يعجبك ايضا