بيروت/ بغداد
تدفعنا المظاهرات الأخيرة في لبنان والعراق إلى التساؤل عن سبب هذا السخط الشعبي في البلدين؟ الإجابة على هذا السؤال يجب البحث عنها في نوع النظام السياسي في كلا البلدين، والتدخل الغربي والمشكلات التي خلقوها طوال السنوات الأخيرة.
ليس هناك شك في أن الأحزاب والشخصيات السياسية في العراق ولبنان متورطة في بعض هذه المشكلات، لكن إذا أردنا أن نفهم مصدر عدم الكفاءة السياسية في هذين البلدين، فعلينا أولاً أن ننظر إلى هيكل الحكم القائم فيهما، والناشئ عن التدخل الأمريكي والأوروبي المباشر، ونلقي نظرةً على المشكلات التي تعاملت معها الدولتان في السنوات الأخيرة.
لطالما كان العراق ولبنان مسرحاً للصراع السياسي والتوترات التي لا تنتهي على مدى العقدين الماضيين، والتي يجب أن يعزى الكثير منها إلى نظام برلماني قائم على المحاصصة الطائفية والمصلحة الحزبية.
إن تشكيل الحكومة في هذين البلدين مهمة صعبة للغاية، حيث يجب أن تجتمع العديد من المكونات كي تتمكن الأحزاب والشخصيات السياسية من التوصل إلى توافق في الآراء، ولكن حتى مع تشكيل الدولة، فهناك دائماً توترات بين الأحزاب القائمة تؤدي بالفعل إلى تعطيل الأداء المرغوب فيه للحكومات.
لبنان واتفاق الطائف برعاية أمريكا والسعودية
منذ ما يقرب ثلاثين عاماً، يشهد لبنان نظاماً تبلور برعاية أمريكية مباشرة في السعودية من خلال اتفاق الطائف، الذي تشكّل بعد سنوات من الصراع الداخلي.
يعتمد هذا النظام السياسي في الواقع على رئيس وزراء سني، ورئيس جمهورية مسيحي ورئيس للبرلمان شيعي، بحيث أنه حتى تغيير القانون الانتخابي في الآونة الأخيرة لم يكن قادراً على الحدّ من حجم الانتماءات الحزبية والطائفية، وحتى في تركيبة الحكومات المشكَّلة، كانت هناك خلافات كثيرة، ما يجعل من الصعب على لبنان التغلب على مشكلاته العديدة.
على سبيل المثال، حصل تحالف 14 مارس الذي يقف في الخندق المعارض للمقاومة ويتحالف مع الأمريكيين بقيادة سعد الحريري وسمير جعجع، على أعلى النسب في الحكومات خلال السنوات الأخيرة وشغل أهم الوزارات، ولكن على الرغم من هذه الحقيقة كانوا يحاولون تحميل مسؤولية جميع أوجه عدم الكفاءة على حزب الله اللبناني وحلفائه.
كان دعم أمريكا والعرب للبنان مشروطًاً دائماً بعدم استفادة حزب الله من هذه المساعدات، وقد أدى هذا العناد السياسي بأمريكا وحلفائها إلى دعم الأحزاب المتحالفة معهم على الرغم من مزاعمهم بدعم لبنان، وبالتالي لم تكن مساعدتهم مجديةً لهذا البلد.
بالإضافة إلى عدم كفاءة نظام الحكم اللبناني، ينبغي عدم نسيان المشكلات التي خلقتها أمريكا والكيان الإسرائيلي لهذا البلد في السنوات الأخيرة، وحرب الثلاثة والثلاثين يوماً التي شنّها الكيان على لبنان لتدمير بنيته التحتية في بعض المناطق، فهي مثال على التدخل الواضح لأعداء لبنان لوقف تقدمه.
من ناحية أخرى، كان اغتيال رئيس الوزراء اللبناني “رفيق الحريري” – الذي حاولت جميع المؤسسات التابعة للغرب اتهام حزب الله بتنفيذه – يهدف إلى تعميق الصدع السياسي الموجود في لبنان.
في السنوات الثلاث الأخيرة التي شهد فيها لبنان وصول “ميشال عون” الحليف لحزب الله إلى رئاسة الجمهورية أصبحت هذه الأعمال العدائية واضحةً، وزادت أمريكا في فرض العقوبات على المصارف وبعض الشخصيات اللبنانية بذريعة التعاون مع حزب الله بشكل غير مسبوق، كما بذلت جهوداً في داخل لبنان لتحميل الرئيس عون وحزب الله مسؤولية كل الفساد المتراكم وعدم الكفاءة ومشكلات الناس المعيشية في السنوات الثلاثين الماضية.
كان تشكيل الحكومة في لبنان دائماً مهمةً صعبةً للغاية وتستغرق وقتاً طويلاً، حيث تستغرق في بعض الأحيان من سنتين إلى ثلاث سنوات حتى تتوصل الأحزاب السياسية اللبنانية إلى توافق في الآراء بشأن تشكيل الحكومة، والآن باستقالة سعد الحريري – الذي تم بضغوط أجنبية مباشرة – أصبحت مكافحة الفساد أكثر صعوبةً بكثير.
بالنظر إلى القانون الذي صاغه الغربيون للبنان، لن يقرّ لهذا البلد قرار أبداً، وستبحث الحكومات عن المصالح الحزبية والطائفية بدلاً من المصالح الوطنية، وهو الأمر الذي ينطبق بوضوح على العراق أيضاً.
بول بريمر.. المتهم الرئيس
في العراق أيضاً، ومع الإطاحة بحزب البعث ودخول الغزاة الأمريكيين، حكم “بول بريمر” البلاد من 2003م إلى 2004م، وحاول تأسيس نظام يتماشى مع المصالح الأمريكية.
ومن المثير للاهتمام أن العراق – مثل لبنان – شهد شكلاً من أشكال المحاصصة الطائفية والدينية، بمعنى آخر في العراق – كما هو الحال في لبنان – لم يرد ذكر هذه المحاصصة في الدستور، لكن النظام البرلماني مصمم بحيث يكون منصب رئاسة الوزراء للشيعة إلى جانب رئيس كردي ورئيس للبرلمان سُنِّي.
إن ما صممه بول بريمر ومساعدوه كنظام سياسي في العراق يمكن وصفه بأنه أساس مشكلات اليوم في العراق، والذي استمر لسنوات عديدة في خلق العديد من المشكلات للعراق.
عندما يتم انتخاب الحكومة من الوزراء إلى رئيس الوزراء في ظل ظروف معينة – وغالباً ما يتم تقسيمها بناءً على الإجماع بين الأحزاب السياسية – فلن تكون هناك حكومة ناجحة أبداً، لأن المسؤول الشيعي يسعى لتحقيق مصالح الشيعة، والمسؤول السُنيَّ لتحقيق مصالح السنة، والكردي لزيادة المصالح والصلاحيات لمنطقته، وهكذا لن تنجح أي حكومة في مثل هذه الظروف.
والخطة التي وضعها الأمريكيون للعراق اليوم هي أنه طالما يستمر انعدام الأمن والفوضى في البلاد يستمر حضور الأمريكيين فيها، وعندما يدخل الأمريكيون في بلد ما فإن نهب موارده الوطنية أمر مؤكد، وفي هذه الحالة لن يرى العراقيون أبداً التقدم والازدهار.
من ناحية أخرى، عندما لا تكون هناك حكومة مستقلة، فلا توجد مساءلة من الحكومة، وسيدَّعي الجميع عدم الكفاءة والفساد في الحكومة، حتى أولئك الذين لعبوا دوراً رئيساً في تشكيل هذه الحكومة.
على سبيل المثال، إن تيار مقتدى الصدر الذين كانوا من الداعمين الرئيسيين لرئيس الوزراء العراقي الحالي “عبد المهدي”، وشاركوا في توزير أغلب الوزراء، لكنهم الآن الأكثر استياءً، رغم كون هذه الحكومة ناتجةً عن تدبير هؤلاء أنفسهم.
من جهة أخرى، رغم أن الأمريكيين قد وقّعوا اتفاقاً لسحب قواتهم من العراق خلال عهد نوري المالكي، لكن سفارتهم في المنطقة الخضراء باعتبارها واحدة من أكبر السفارات في العالم كانت دائماً مسرحاً لإدارة الأجواء السياسية العراقية.
كما أن الأمريكيين وعلى الرغم من الإطاحة بصدام حسين حاولوا إحلال حكومة ضعيفة وغير فعّالة محله، ويمكن رؤية هذا الادعاء في أدائهم منذ عام 2003م.
استمرت هذه العراقيل الأمريكية في وصول حكومات وشخصيات شعبوية إلى الحكم، إلى درجة أن الضوء الأخضر الأمريكي كان مطلوباً بطريقة أو بأخرى لتشكيل أي حكومة عراقية.
بالطبع، لا ينبغي أن تقتصر مؤامرات أمريكا ضد النظام السياسي في العراق على الدور السياسي فحسب، لأن دعمهم للجماعات التكفيرية وإيجاد داعش كان نقطة تحول رئيسة لإدخال العراق في حرب استنزاف.
واللافت أنهم منعوا أيضاً تسليم الأسلحة الأمريكية التي اشترتها الحكومة العراقية في ذروة حرب الحكومة العراقية ضد داعش وتشكيل الحشد الشعبي، ووصل بهم الأمر إلى أنهم شكلوا تحالفاً لمحاربة داعش ليرسلوا عن طريق ذلك عدداً كبيراً من قواتهم إلى العراق مرةً أخرى، ويقيموا قواعد عسكرية عديدة.
سعت سياسة دونالد ترامب الخارجية في العراق إلى استخدام عادل عبد المهدي كأداة لتعزيز أهدافه، وأحد الأمثلة على هذه الأهداف هو تماشي الحكومة العراقية مع أمريكا في العقوبات القاسية ضد إيران، والذي واجه بالطبع المعارضة العراقية، وقد دفع هذا حكومة عبد المهدي إلى دفع ثمن استقلالها فيما يتـعلق بإيران، وكذلك الجهود المبذولة لتحسين العلاقات مع الشرق، وتحديداً الصين وروسيا.
تجدر الإشارة إلى أن أمريكا قد ساهمت في إنشاء أنظمة في العراق ولبنان تتسم بالضعف وعدم الكفاءة، ولكن يبدو الآن أنه بعد تغيير ميزان القوى في البلاد وصعود خصومها تحاول تحميل مسؤولية جميع المشكلات على إيران وحلفائها في هذين البلدين أولاً، والانتقال إلى نوع من الأنظمة التي صممتها ثانياً.
بعبارة أخرى، يمكن التأكيد على أن الأمريكيين يرون أن الاحتجاجات المعيشية في كل من العراق ولبنان فرصة لتطبيق نوع من المراجعة في سياساتهم في هذين البلدين، والاعتماد على الشخصيات المرغوبة لديهم لتحقيق سيادة جديدة وفقاً لإرادتهم.
ومع ذلك، فإن الإصرار العراقي واللبناني على ضرورة أن تكون المطالب الشعبية في إطار القانون وعدم السماح للعناصر المتسللة بإحداث فوضى في البلاد، يمكن أن يمهد الطريق لإصلاحات جدية في النظام السياسي تعود بالنفع على الناس وتحارب الفساد والفقر. الأمر الذي يمكن أن يحقق الاستقلال السياسي للبنان والعراق إلى جانب الانتعاش الاقتصادي.