عدنان الجنيد
إن الله تعالى حكى لنا في كتابه الكريم الكثير من قصص الأنبياء والمرسلين وأخبار الأولياء الصالحين ، وخلّد مواقفهم ووقائعهم وآثارهم ومناسباتهم ، وذلك كي نفهم منه تعالى بأن تخليد المناسبات الدينية التي لها ارتباط بأنبياء الله وبأوليائه والاحتفاء بها وإحياءها هي مما يرتضيه تعالى.
ذلك أن الاحتفاء بالمناسبات الإسلامية تجعلنا نستلهم منها الدروس والعبر والعظات وتحيي فينا القيم الإسلامية والأخلاق المحمدية ، وتزيدنا قوة وتمسكاً بإسلامنا وديننا وتحتضن أجيالنا فتحميهم من الانحرافات ومن الثقافات المغلوطة والأفكار الدخيلة على ديننا وإسلامنا ومجتمعنا.
ولهذا كان لهذه المناسبات الامتداد الروحي والفيض السّبوحي للأجيال الحاضرة واللاحقة لمَا لنتائجها وثمارها من خير عميم على الأجيال المحافظة عليها والمتمسكين بها..
فهي من أيام الله والتذكر بأيام الله يزيد القلوب نوراً وبصيرة والعقول فهماً وعلماً وحكمة ، قال تعالى: ﴿ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ﴾ إن الله تعالى أمر نبيه موسى -عليه السلام – أن يذكّر قومه بأيام الله وهي النعم التي أنعم الله بها عليهم ، أنجاهم من آل فرعون وفلق لهم البحر وظلل عليهم الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى و… الخ
وهذا لا يعني أن التذكير في الآية موقوف على بني آسرائيل فحسب بل هو تذكير لكل الأمم إلى قيام الساعة.
وكذلك التوجيه الإلهي والخطاب الإلهي ليس موقوفاً على موسى فحسب بل هو سنة في عامة أنبيائه ورسله ومنهم سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومعلوم قطعاً أن حيزاً كبيراً من القرآن إنما هو تذكير ( بأيام الله) ودعوة للاعتبار بها ﴿ فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الأَبْصَارِ﴾.
إذاً أيام الله بالمعنى العام : هي المناسبات الكريمة والنعم الجسيمة والأحداث الزمنية
الكبيرة والوقائع التاريخية العظيمة …
لهذا كان للمناسبات في ديننا الإسلامي أهمية كبيرة وآثار كريمة، ولقد أبرز الله تلكم الأهمية بأن جعل بعض تلك المناسبات ذات ارتباط بأركان الدين..
فمثلاً شهر رمضان الذي فرض الله علينا صومه ارتبط بمناسبة نزول الوحي ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ أي ابتدأ نزوله في شهر رمضان في الليلة المباركة ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ…﴾ وهذه الليلة المباركة هي ليلة القدر ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾.
وأصبح المسلمون في كل عام يستعدون ويتهيئون لهذه المناسبة فإذا ما حلّت بهم عكفوا على قراءة القرآن وقاموا ليالي شهر رمضان وصاموا نهاره، فتتلطف أرواحهم وتزكو نفوسهم ، وتصفو قلوبهم ويزيد روح التكافل الاجتماعي فيما بينهم..
وكذلك شهر ذي الحجة حيث تتم فيه مناسك أحد أركان الدين وهو الحج فقد جاء ليحيي مناسبات متعددة تتعلق بها مناسك وشعائر هذا الركن ، منها: ذكرى تشييد بيت الله الحرام من قبل سيدنا إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام ولقد خلَّد الله تعالى الموضع الذي كان يقف إبراهيم عليه وهو يرفع القواعد، ليس هذا فحسب بل أمر الله تعالى عباده أن يجعلوا ذلك الموضع الذي وضع إبراهيم – عليه السلام – فيه قدمه أثناء رفعه للقواعد مُصلى أي يعبدون فيه الله تعالى جيلاً بعد جيل إلى قيام الساعة قال تعالى: ﴿ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ وكذلك من شعائر هذا الركن الصفا والمروة ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ وهذا المنسك ماهو إلا تخليد لمناسبة السيدة هاجر التي كانت تبحث عن الماء حيث تركها زوجها إبراهيم ومعها ولدها إسماعيل _ الرضيع _ تركها في مكة حيث لم تكن الكعبة موجودة آنذاك وليس في وادي مكة أحدٌ لا أنيس ولا ونيس ، ولم يكن مع السيدة هاجر من الطعام والماء إلا القليل، ولمّا نفذ الماء والطعام ورأت ولدها يبكي ويتلوى من شدة العطش ذهبت مسرعة حتى وصلت إلى جبل الصفا ثم نظرت إلى الوادي يميناً ويساراً لعلها تجد ماء تسكت به بكى ولدها فهبطت من الصفا وسارت في اتجاه جبل المروة فصعدته ولم تجد شيئاً ، فنزلت من جبل المروة صاعدة جبل الصفا مرةً أخرى وهكذا ظلت تنتقل من الصفا إلى المروة ومن المروة إلى الصفا وبهذه المناسبة خلد الله فعلها هذا وصار عبادة.
وكذلك الحال بالنسبة لشعيرة الوقوف بعرفة والذي جاء ليذكرنا بمناسبة لقاء أبينا آدم بأمنا حواء بعد هبوطهما من السماء، وهكذا نجد أن كل مناسك وشعائر الحج كلها مناسبات لها آثارها الروحية ، وخلدها الله تعالى في كتابه الكريم وجعلها عبادات حتى يظل امتدادها الروحي سارياً في قلوب الأجيال إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهكذا يجب أن نفهم أن تخليدنا وإحياءنا للمناسبات الدينية هو تخليد للقيم والأخلاق والسلوك الحضاري والمُثل العُليا..
إن الاحتفاء بهذه المناسبات الدينية ينطلق من دافع ديني ولاء لله ولرسوله ولآل بيته الطاهرين، تأكيداً للهوية الخاصة في الانتماء إليهم..
ولقد وجدنا بعض المجتمعات الإسلامية يبذلون كل جهودهم وإمكاناتهم من أجل نجاح الاحتفال بهذه المناسبات ومازالوا جيلاً بعد جيل رغم الصعوبات التي كانت – ومازالت عند البعض- تواجههم للحيلولة دون إقامة هذه المناسبات ولكن أرواحهم اللطيفة وعقولهم الحصيفة ونفوسهم النظيفة لم تعقها تلك الموانع ولم ترتحل تلك الصعوبات عن إحياء هذه المناسبات لأنها ترى أن الاحتفاء بها هو استمرارية دوام الارتباط بالله ورسوله وبآل نبيه الطاهرين وبالأولياء المخلصين
إضافة إلى أنهم يرون أن الارتباط الروحاني والسلوك الإيماني يقوى بالتفاعل مع هذه المناسبات بل وبها يزداد انتماؤهم إلى هذا الدين وتنشد عواطفهم حباً إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإلى أعلام الهدى من آل البيت وأوليائهم العارفين..
وكذلك يجب علينا كمسلمين أن نعرف أن المناسبات الإسلامية هي إحياء لتأريخنا المشرق في شتى نواحي الحياة ، ودعوة لعدم نسيان هذا التأريخ من خلال الاستمرار في إحياء مناسباته التي تعيد تذكير الأمة بتأريخها وعظمائها وأبطالها المغاوير وكذلك تحصّن المسلمين من أي غزو فكري أو تطرف تكفيري وهابي أو ثقافات مغلوطة ومنحرفة ودخيلة على ديننا ومجتمعنا ..
أضف إلى ذلك من كون المناسبات الدينية مواسم روحية يتزود منها القلب بما يحتاجه من شحنات وطاقات لازمة تقوّي فيه عزيمة إتمام المسير على صراط الله…
إن الأجواء الروحانية التي يعيشها المسلمون – سيما الذين مازالوا يحافطون على هذه المناسبات من خلال إحيائها والاحتفاء بها- عند استقبالهم لأية مناسبة قادمة ووضع البرامج لها توفر فرصاً إيجابية هائلة يمكن استثمارها والاستفادة منها في تنمية المجتمعات دينياً وثقافياً وسلوكياً وجهادياً..
لأن النفوس تكون مهيأة وتفاعل الناس معها كبير فإن كانت هذه المناسبة تتعلق بذكرى المولد النبوي الشريف على صاحبها وآله أفضل الصلاة وأزكى التسليم أو بذكرى هجرته أو بذكرى الإسراء والمعراج أو بأية ذكرى تتعلق بجنابه الشريف فإنها تجعل المسلمين يزدادون ارتباطاً وولاءً بنبيهم واقتداءً واتباعاً لمنهجه القويم ويجددون حبهم وطاعتهم له صلى الله عليه وآله وسلم ويوالون أولياءه ويعادون أعداءه فلا يقبلون الضيم والذل والخنوع لأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان عزيزاً عظيماً..
وإن كانت المناسبة تتعلق بأئمة آل البيت – عليهم السلام – والتي تقدم لنا خير من تجسدت فيهم قواعد الدين من صلاح واستقامة وجهاد ودفاع عن الدين، فمثلاً؛ ذكرى استشهاد الإمام الحسين أو الإمام زيد – عليهما السلام – فإن الناس من خلال سماعهم للسيرة الجهادية لهذين الإمامين يزدادون قوة وشجاعة وإباء وتنمو فيهم روح الجهاد وتشحذ هممهم وتصقل عزائمهم ويكونون أكثر تجاوباً للبذل والعطاء والتضحية ، وهكذا يكون حالهم في احتفائهم لأية مناسبة تخص أعلام الهدى..
ولهذا نجد أن أي مجتمع يحتفي بالمناسبات الإسلامية ويقوم بإحيائها تجده مجتمعاً مقاوماً ضد الطغاة والمستكبرين لا يقبل الذل ولا الخنوع …
فانظر إلى المجتمعات التي مازالت تحتفي وتحتفل بمناسباتها الإسلامية ستجدها هي المجتمعات الممانعة والمقاومة والمناهضة للإستكبار العالمي..
وما يحدث على المجتمع اليمني من حرب كونية عبثية إلا لأنه مجتمع محافظ على دينه ، محتفي بمناسباته الإسلامية والتي تعود عليه بين كل فترة وأخرى والتي أثمرت فيه روح الجهاد والثبات والصمود ..
وكذلك هناك مناسبات إسلامية تتعلق بأولياء الله من أقطاب الصوفية ممن تجلت في أحوالهم أخلاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم ممن بذلوا أرواحهم وأموالهم وأعمارهم في الجهاد في سبيل الله ونشر وتبليغ هذا الدين ، ودعوة الأنام لعبادة الله ومحبة النبي -عليه وآله الصلاة والسلام-.
فنجد بعض المجتمعات الإسلامية سيما التي يسودها الجو الصوفي نجدها تقيم حولياتهم وتحتفي وتحتفل بذكرياتهم فيكرمون الزائرين بموائد الطعام ، ويستقبلون الوافدين بالترحيب والسلام ثم تقام المحاضرات الدينية والموالد المحمدية والقصائد المصطفوية ، فيشعر الحاضرون في هذه المناسبة بالوجد والروحانية ويحصل بعض المحبين الصادقين على الحقائق العرفانية وكأن أنوار صاحب المناسبة عليهم تلوح ، وأنفاسه للحاضرين تفوح..
وهكذا نجد -أيضاً – المجتمعات الشيعية تحتفل وتحتفي بذكريات مواليد أو وفيات رموزهم وأئمتهم ولهم طقوس يمارسونها في إحياء مناسباتهم وتعود عليهم – أي هذه المناسبات – بالفضل العميم والأجر العظيم .. ناهيك عن أن هذه المناسبات تزيدهم تكافلاً اجتماعياً وتوحداً ومحبة لبعضهم البعض..
هذا وإن الإحتفاء بهذه المناسبات وإحيائها يتم تأصيلها في قلوب الأبناء والأجيال وبهذا يستمر الإمتداد الروحي لهذه المناسبات ويزداد فيضها وعطاؤها كلما أزداد المسلمون في إحيائها والاحتفاء بها..
و – أيضاً – إن الإحتفاء بمثل هذه المناسبات يُعد ثروة معنوية كبيرة هائلة لأنها تنمي في الانسان الصفات المثالية والمبادئ العالية والقيم السامية وهي بهذا تعتبر مصادر للقوة الروحية وأن أي مجتمع يمتلك رصيداً كبيراً من هذه المصادر لاشك أنه مجتمع فعّال وناجح والعكس كذلك..
هذا وبإمكانها – أي هذه المناسبات – أن تقدم الكثير من الخير والعطاء إذا ما تم توظيفها التوظيف الصحيح وذلك عبر برامجها التي تشكل منبعاً روحياً يلهم العزائم ويقوّي الهمم ، ويضيء النفوس ، ويسموا بالعقول ويمنح الفاعلية والنشاط وتعالج المشاكل النفسية والاجتماعية وتربي الإنسان التربية الروحية السامية الأخلاقية وتنمي قدراته وطاقاته وتسيّره في المنهج القويم والطريق المستقيم.. وهذا لن يتأتّى إلا إذا تم تفعيل هذه البرامج في واقع الحياة ..
إن برامج المناسبات الإسلامية تُعد من أعظم الفرص لتوعية وتوجيه الجمهور فالناس بحاجة ماسة إلى معرفة المفاهيم الحقيقية للدين الإسلامي لاسيما في هذا العصر الذي استغرق فيه أكثر الناس في الاهتمامات المادية الجارفة ، وأصبحوا عرضة لوسائل الإعلام التي تحرض فيهم الشهوات والنزوات والأهواء والعداوات الطائفية والمذهبية حتى أصبح إنسان العصر شهوانياً مادياً عدوانياً لا يبحث إلا عن لذته ، ولا يعبد إلا مصلحته ولا يسير إلا وفق هواه فما أحوج إنسان العصر لأجواء روحية تعبوية تذكره بالقيم ، وتشده إلى المبادئ وتوجهه إلى القدوات الصالحة من الأنبياء والأئمة والأولياء وبإحياء المناسبات الدينية يحصل الإنسان على ذلك ويدرك ما هنالك والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.