المختلف والمتشابه بين الامس واليوم
عبدالرحمن مراد
بات من المهم عندما نعقد مقارنات تاريخية أن نذكر الفروق والمتشابهات بين الماضي والحاضر، فالصراع بالأمس كان بين شرق وغرب أي بين أيديولوجيا اشتراكية وايديولوجيا رأسمالية وكان للاتحاد السوفيتي مصالح قومية تتعلق بالدولة يقوم بحمايتها , وحدود يقوم بترسيمها ,وبناء حكومي واضح، وعلى النقيض نجد اليوم أن الولايات المتحدة التي تتفرد بحكم العالم تقف في مواجهات عناصر غامضة لا تتبع دولة بعينها ولا تسيطر على مناطق محددة، بالرغم من أن بعضهم استطاع إقامة ملتجآت خارج سيطرة الدولة، وهؤلاء الأفراد يرفضون الأعراف التي يقوم عليها النظام الدولي كما لا يخضعون للسبل التقليدية بصورة عامة؛ بالمختصر هناك ثلاثة جوانب واسعة للمقارنة بين بيئة الحرب الباردة والبيئة الراهنة:
أولا: واجهت واشنطن في أواخر الأربعينيات كما تواجه اليوم بيئة )جيو/سياسية) جديدة ومحيرة، تنطوي على تهديدات أمنية جديدة؛ ففي بداية الحرب الباردة تمثل التهديد في الحركة الشيوعية العالمية التي قادها الاتحاد السوفيتي المسلح نوويًّا، أما اليوم فيتركز هذا التهديد في حركة جهادية عالمية تشن هجمات إرهابية ضد الغرب، وتسقط أعدادًا ضخمة من الضحايا.
ثانيًا: مثلما الحال في الأربعينيات؛ شهدنا إنشاء كيانات بيروقراطية كبيرة وجديدة تابعة للحكومة الأمريكية، بهدف التصدي لهذه التهديدات.
ثالثا :وهو الأهم في هذا الموضوع: أنه في بدايات الحرب الباردة ساد الإدراك بأن الولايات المتحدة وحلفاءها يخوضون صراعًا أيديولوجيًّا؛ فمن جانبهم أدرك صانعو السياسات جيدًا أن هذا الصراع سيجري خوضه على مستويات دبلوماسية واقتصادية وعسكرية ونفسية، أما اليوم – وكما اعترفت وزارة الدفاع الامريكية في تقريرها الرابع السنوي – أن الولايات المتحدة تقود حربًا على الصعيدين العسكري والفكري , فهي تقود معركة بالأسلحة ومعركة بالأفكار؛ حيث لن تكون الغَلَبَة على الجانب الآخر إلا بتشويه الأيديولوجيات المتطرفة في أعين معتنقيها ومؤيديها .
وعليه تتطلب عملية نجاح سياسة الاحتواء الأمريكية – إلى جانب الدرع العسكري الذي وفرته القوة الأمريكية النووية والتقليدية – بناء مؤسسات ديمقراطية منفتحة لتحدي الهيمنة على المجتمع المسلم ، وشكلت العلاقة الوثيقة بين الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة وجهودها لإنشاء شبكات تروج للفكر الديمقراطي الحديث المنفتح والمتعايش المكون الرئيسي والعامل الأهم في النجاح العالمي الذي أحرزته سياسة الاحتواء الأمريكية. وبذلك فإنها تمثل نموذجًا لصانعي السياسات في الوقت الراهن.
والجدير بالذكر أن داخل الولايات المتحدة وأوروبا كان هناك بالفعل حركات فكرية مناهضة للمد الاسلامي خاصة في الأوساط المتطرفة ، وكانت الحاجة ماسَّة في هذا الوقت لعاملين مهمين؛ ألا وهما المال والتنظيم اللازمان لتحويل الجهود الفردية إلى حملة واسعة النطاق، وبالتالي يتضح أن الولايات المتحدة لم تقم بإنشاء هذه الشبكات من فراغ، ولكن جاءت هذه الشبكات نتيجة لجهود حركات فكرية وسياسية قامت الولايات المتحدة والحكومات الأخرى الموالية لها بتبنيها وإيوائها بهدوء.
الأكثر خطورة هو ما تتضمنه تقارير مؤسسة راند – وهي مؤسسة بحثية امريكية – ففي تقرير المؤسسة الأخير – التي غالبًا ما تظهر آثار تقاريرها في السياسة الأمريكية مثل «إشعال الصراع بين السنة والشيعة» أنه يدعو لما يسميه «ضبط الإسلام» نفسه – وليس «الإسلاميين» ليكون متمشيًا مع «الواقع المعاصر». ويدعو للدخول في بنيته التحتية بهدف تكرار ما فعله الغرب مع التجربة الشيوعية، وبالتالي لم يَعُد يتحدث عن ضبط «الإسلاميين» أو التفريق بين مسلم معتدل ومسلم راديكالي، ولكن وضعهم في سلة واحدة!.
فتقارير «راند» الأخيرة – كتقرير 2004م- كانت تشجيع الإدارة الامريكية على محاربة «الإسلاميين المتطرفين» عبر: خدمات علمانية (بديلة)، ويدعون الى «الإسلام المدني»، بمعنى دعم جماعات المجتمع المسلم المدني التي تدافع عن «الاعتدال والحداثة»، وقطع الموارد عن المتطرفين، بمعنى التدخل في عمليتي التمويل وشبكة التمويل، بل وتربية كوادر مسلمة عسكرية علمانية في أمريكا تتفق مصالحها مع مصالح أمريكا للاستعانة بها في أوقات الحاجة.
ولكن في تقريرها الذي حمل عنوان « بناء شبكات مسلمة معتدلة «، يبدو أن الهدف يتعلق بتغيير الإسلام نفسه والمسلمين ككل بعدما ظهر لهم في التجارب السابقة أنه لا فارق بين « معتدل « و» متطرف « وأن الجميع يؤمن بجدوى الشريعة في حياة المسلم، والأمر يتطلب « اللعب في الفكر والمعتقد ذاتهما « .
وبدت الولايات المتحدة في كل هذه المساعي كالمؤسسة البحثية؛ حيث قامت بتقييم كل المشاريع والأفكار لتحديد ما إذا كانت تخدم مصالح الولايات المتحدة، وقامت بدعمها ماديًّا، ثم اتبعت توجهًا يقوم على عدم التدخل، وتركت هذه المنظمات والهيئات تدير نفسها وتحقق أهداف الولايات المتحدة دون أي تدخل مباشر من الولايات المتحدة، ومثلما الحال مع أي مؤسسة وضعت الحكومة الأمريكية خطوطًا إرشادية بشأن كيفية إنفاق الأموال – إلا أنه بصورة عامة أدرك المسؤولون الأمريكيون أنه كلما ابتعدت المسافة بين حكومتهم وبين المؤسسات التي ترعاها؛ كلما زادت احتمالات نجاح أنشطة هذه المنظمات.
تلك هي الصورة التي عليها الحال العربي اليوم في علاقته مع النظام العالمي الجديد الذي تديره أمريكا كقطب متفرد ومتغطرس في حكم العالم والتحكم بمصيره وقد بدأت البوادر تظهر من خلال حركة تشويه المعتقد الإسلامي وتفكيك المنظومات الفكرية ومن تابع الفيلم الوثائقي « ما خفي كان أعظم « الذي بثته قناة الجزيرة خلال شهر يوليو2019م يجد جزءا من هذه الحقائق في ثنايا الفيلم .
معركتنا اليوم لم تعد معركة عسكرية فحسب ولكنها معركة فكرية وعلينا مواجهتها من خلال بناء المؤسسات الثقافية وإعادة هيكلتها وتجديد أهدافها وتحديثها لتقوم بدورها الحيوي في سياق المعركة الكبرى التي تواجه الامة المسلمة .