ذاكرة الشعوب كمصدر للتوحد والنهوض
د. احمد عبدالله الصعدي
عندما بدأ تفكك الاتحاد السوفيتي في آخر أيام غورباتشوف ، ثم في أيام بوريس يلتسين في بداية تسعينات القرن الماضي راجت التنبؤات التي اتخذ بعضها مظهر الرصانة والصرامة العلمية فأعلن أن عمر روسيا الإتحادية لن يطول كثيرا وأنها آيلة إلى التفكك لا محالة ، ولن تكون هنالك دولة موحدة اسمها روسيا الاتحادية في نهاية التسعينات. أصوات قليلة هي التي خالفت هذا الإجماع للعقول التي تفكر بطريقة ميكانيكية ، ومن هذه الأصوات القليلة المفكر والفيلسوف أبو بكر السقاف. ففي مقابلة له مع مجلة «قضايا العصر» التي كان يصدرها الحزب الإشتراكي اليمني عدد شهر مارس 1992 قال أن بعض الصحفيين العرب في اليمن والوطن العربي يتحدثون عن الإنهيارات الحاصلة في التجربة السوفييتية وكأنه انتصار شخصي لهم ، وهذا غباء إذ كيف يمكن أن أعتبر ما هو نصر لأمريكا انتصاراً لي. وخلافا لكل التوقعات الرائجة ذكر السقاف أن لدى روسيا القاعدة والبشر الذين يصنعون التقدم «فالعالم في طريق التشكل ، وما يظهر الآن من الهيمنة الأمريكية في الوطن العربي لم يكن غريبا فقد تعودنا أن ينتصر عندنا الاستعمار بانتظام في حين ينهزم في كل بقاع الأرض.. حتى الآن كما نشاهدفي جنوب أفريقيا».
ومن الآراء التي خالفت «الإجماع» على ذوبان روسيا كقوة عالمية وخلو الملعب لأمريكا وحدها رأي بطرس غالي الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك. ففي مقابلة مع صحيفة الوسط اللندنية ، العدد «212» بتاريخ 19/2/1996 فند الإدعاء بأن تفكك الإتحاد السوفيتي بمثابة وقوع حرب عالمية ثالثة وقال «هذا الكلام ليس صحيحا لأن روسيا لا تزال دولة كبرى تتمتع برقعة جغرافية فريدة في العالم بين آسيا وأوروبا ، وتتمتع بالقوة النووية وتمتلك أكبر جيش ، ولديها مجموعة من المثقفين فضلا عن وجود تقاليد الدولة الكبرى والإرادة السياسية في لعب دور في المسائل الدولية…. روسيا على رغم الصعوبات الاقتصادية التي تمر بها وعلى رغم تفكك الإتحاد السوفياتي ، لديها الإرادة السياسية والإمكانات البشرية والوضع الجيوبوليتكي الفريد والتقاليد. زرتها لمناسبة الاحتفال بمرور خمسين عاما على الانتصار على النازية. ودعيت إلى حفلة كبرى تخللها عرض عسكري ومشاهد فنية. وجدت شابا في مطلع العشرينات يلقي خطبة فسألت ما معنى أن يتحدث هذا الشاب بالذات. وتردد السؤال نفسه في الصالة فجاء الجواب : هذا الشاب ضابط بنجمة واحدة لكن والده كان جنرالا وقتل في الحرب ضد النازيين ، وجده كان جنرالا وقتل ، ووالد جده كان ضابطا في عهد القيصر. إنها التقاليد تعطي قوة للدول. الناس يتناسون التاريخ. القوات الروسية احتلت باريس سنة 1870. روسيا هي أول من فكر في اتفاقية 1899 لتسوية النزاعات الدولية بالطرق السلمية. دعنا من تشايكوفسكي وتولستوي وغيرهما هناك حضارة وأصالة»، وإلى ذلك يضيف بطرس غالي أن روسيا نائمة على الروايات والموسيقى والرقص وتراث كامل ساهم في تحولها دولة كبرى.
اليوم نشاهد جميعا ونلمس ما صارت عليه روسيا من قوة ونفوذ . في التاسع من مايو هذا العام احتفلت روسيا ، الدولة والشعب بالذكرى الرابعة والسبعين للانتصار على النازية في الحرب التي قدمت فيها روسيا وبقية شعوب الإتحاد السوفيتي أكثر من عشرين مليون شهيد. كانت الاحتفالات في موسكو وبقية المدن الروسية ، كما بثت على الشاشات تدل على أن ذاكرة الحرب والتضحيات الجسام والآلام المضنية والمآسي والأحزان قد تحولت إلى قوة فاعلة لتوحد شعوب روسيا الاتحادية ونهضتها. لوحظ الاحترام الكبير للمحاربين القدامى وتبجيل بطولاتهم وجميل صنيعهم ، وتعهد الأجيال الفتية على الإخلاص لتضحياتهم من خلال بناء روسيا قوية وحمايتها. اصطف الأطفال مع الشباب والكهول وهم يغنون الأغنية الشهيرة من أيام الحرب ((كاتيوشا)) التي يعرفها ويؤديها كل مواطن روسي والكثير من مواطني الإتحاد السوفيتي السابق وقد أصبحت أغنية عالمية. من أهم مالفت نظري باحتفالات هذا العام ليوم النصر ظهور شيء جديد هو ((الفوج الخالد)). بدأ تشكيل هذا الفوج عام 2012 بمبادرة من مواطنين وأصبح حضوره فاعلا في موسكو وبقية المدن ، وهو لا يعني فوجا عسكريا بل انتظام الآلاف في مسيرات وتظاهرات وهم يحملون صور آبائهم وجدودهم الذين سقطوا في الحرب دفاعا عن الوطن ، ويرددون القول : لو لم يضح آباؤنا وجدودنا لما بقيت لنا هذه الأرض التي نعيش عليها أحرارا سعداء. ويذهب الكثيرون للبحث في السهوب والغابات عن بقايا من رفات أسلافهم الذين لم يعثر على جثثهم ولم يحظوا بتشييع لائق. وقد أصبحت بعثات البحث عن الرفات مصدرا من مصادر التربية على حب الوطن والتضحية في سبيله وتقدير من ضحوا لأجله. وما أجمل صور الأطفال وهم يحفرون وينقبون بأيديهم عن رفات الشهداء. هكذا تكون الذاكرة الحية قوة روحية تنبض بالحياة لا مصدرا للعويل والندب وجلد الذات.