حروب أمريكا الخاسرة من فيتنام إلى سوريا واليمن ( 13)
احمد الحبيشي
تأسيسا على ما تقدم في الحلقة السابقة ، يمكن القول إن المجتمع المدني يمتلك حقـا مشروعـا في مساءلة الجهات الحكومية المختصة حول الأساس الدستوري أو القانوني لجمعية علماء اليمن التي استخدمها التيار الشوكاني الوهّابي الإخواني في أحزاب السلطة والمعارضة لتأزيم البيئة السياسية والانتقال الى نظام (المبادرة الخليجية) خلال السنوات التي سبقت العدوان السعودي الأميركي على اليمن ، مع الأخذ بعين الاعتبار أن أساس الشرعية في الجمهورية اليمنية ونظامها السياسي الديمقراطي التعددي يقوم على الدستور والقوانين النافذة التي تلزم جميع مكونات الدولة والمجتمع المدني بمن فيهم رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس الوزراء والوزراء وقادة أجهزة الدولة والأحزاب والتنظيمات السياسية والمنظمات والجمعيات غير الحكومية والشركات والمؤسسات والجامعات العامة والخاصة، ولا يُستثنى من الالتزام بالدستور والقوانين النافذة أحد .
ولئن كان النائب الإخواني المعارض محمد الحزمي قد حرص في تصريحاته الصحفية التي تداولتها وسائل الإعلام اليمنية والعربية على شرح وتوضيح مضمون البيان السياسي الذي سلمه بعض رجال الدين الحزبيين للرئيس السابق أثناء لقائه بهم بعد صلاة يوم الجمعة 23 / 4 / 2010م، فإن من يتأمل مضمون ذلك البيان بحسب تصريحات الحزمي سيجد أنه انطوى على تهديدات واتهامات خطيرة للحكومة والمنظمات النسائية وبعض الصحف والكتَّاب تستدعي المساءلة القانونية للذين كتبوا ذلك البيان ووقعوا عليه.
وحتى لا نصادر الحقوق السياسية والمدنية لرجال الدين الحزبيين الذين صاغوا ذلك البيان، حيث يتيح لهم الدستور كمواطنين ممارسة حق التعبير عن آرائهم وأفكارهم ومطالبهم بالوسائل القانونية ، إلا أن ذلك لا يعني بأي حالٍ من الأحوال أعطاءهم الحق في ممارسة الوصاية على الدولة والمجتمع باسم الحاكمية لله .
ومما له دلالة أن يهدد بعض رجال الدين الحزبيين في بيانهم السياسي بتنظيم مسيرة يسدون بها شوارع العاصمة صنعاء، وبسحب شرعية الحكومة إذا أقر مجلس النواب مشاريع تعديل بعض القوانين التي تقدمت بها الحكومة بهدف تمكين المرأة من المشاركة الفاعلة في إدارة شؤون الدولة والحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وحماية ورعاية الطفولة والدفاع عن حقوق المرأة والطفل.
ولمَّا كان معظم وأبرز الموقعين على ذلك البيان السياسي هم رجال دين حزبيون يشغلون مواقع قيادية في الهيئة العليا ومجلس الشورى والكتلة البرلمانية لحزب التجمع اليمني للإصلاح الذي كان يقود أحزاب المعارضة المنضوية في “اللقاء المشترك” ، فإن المطالبة بوقف الإجراءات الدستورية لمناقشة وإقرار مشاريع تعديل بعض القوانين التي تقدمت بها حكومة الدكتور علي محمد مجور الى مجلس النواب آنذاك ، تعني مطالبة الرئيس السابق بالتخلي عن برنامجه الانتخابي والتنكر لثقة الناخبين الذين منحوه ثقتهم و تنفيذ برنامج معارضيه الذي سقط في تلك الانتخابات ، وهو ما حدث فعلا في اللقاء السري الذي تم في دار الرئاسة الذي أشرنا اليه في الحلقة الماضية حيث وافق الرئيس السابق على التخلي عن برنامجه الانتخابي مقابل موافقة حزب (الإصلاح) على صفقة تأجيل الانتخابات من أبريل 2009 الى أبريل عام 2011 !!
صحيح أن رجال الدين الحزبيين الذين سلموا الرئيس السابق (بيان المطالب )، كانوا أعضاء قياديين بارزين في حزب التجمع اليمني للإصلاح، كونه الحزب الذي يقود ويوجه أحزاب المعارضة المنضوية في إطار تكتل “اللقاء المشترك”.. بمعنى أنهم كانوا يمارسون عملا سياسيـا بامتياز، وهذا من حقهم.. لكن من الصحيح أيضـا أنهم حاولوا إخفاء الطابع السياسي لمطالبهم من خلال التحدث باسم الدين والإيحاء بأنهم يمتلكون تفويضـا إلهيـا لتقديم تعريف أحادي الجانب للشريعة الإسلامية كونها مصدر التشريعات، وهو ما نلاحظه في المطالب التالية التي كانت محور بيانهم السياسي الذي سلموه للرئيس السابق ، ولم يرد فيها أي ذكر لواجب التصدي لخطر الارهاب الذي يهدد أمن واستقرار ومصالح البلاد والعباد :
1/ منع الحكومة من تشجيع الرياضة النسوية و فرض الموسيقى عبر وسائل الاعلام الحكومية، لأن ذلك يخالف الشريعة الاسلامية . .
2/ التنديد بإلحاق المرأة في السلك العسكري والأمني والقضائي لمخالفته الشريعة الاسلامية.
3/ إيقاف كافة المناشط السياحية، لأنها تؤدي إلى إشاعة الفاحشة والفسوق ، والابتعاد عن الدين والشريعة الاسلامية.
4/ وقف أي نقد لرجال الدين (القديسين) وإحالة كل من يقدم على ذلك إلى القضاء.
5/ منع وزارة التربية والتعليم من تعديل وتطوير مناهج التعليم، لأن ذلك يأتي – بحسب البيان – خدمة لمؤامرات أجنبية تستهدف إخراج جيل جاهل بدينه وقابل لكل انحراف وفساد .
6/ إيقاف ومحاسبة عدد كبير من الصحف والكتَّاب بذريعة الدعوة إلى الفاحشة وغير ذلك من المنكرات التي تؤدي إلى الانحلال وضياع الهوية وانتشار الجرائم وشيوع العصابات وانعدام الأمن وطمس الهوية الدينية.
7/ منع أي تشريع لتحديد سن آمنه للزواج بضغط من منظمات محلية وعلى رأسها اتحاد نساء اليمن واللجنة الوطنية للمرأة، لأن من شأن ذلك إشاعة الفاحشة في المجتمع، ومخالفة الشريعة الاسلامية.
من نافل القول إن واقعة بيان المطالب الذي سلمه عدد من رجال الدين الحزبيين ـــ تحت مسمى(علماء اليمن ) ــ الى الرئيس السابق بعد ظهر يوم الجمعة الموافق 23 ابريل 2010م ليست جديدة على الحياة السياسية في بلادنا ، بل إنها تعيدنا الى واقعة بائسة أخرى حدثت في وقت سابق عندما التقى صباح يوم الثلاثاء 15 يوليو 2008م، تحت مسمى ( علماء اليمن ) في قاعة أبولو بالعاصمة صنعاء حوالي ثلاثة آلاف ناشط سياسي من رجال الدين والقيادات والكوادر الحزبية وخطباء المساجد الذين يمثلون الجناح السلفي للتجمع اليمني للإصلاح، بمشاركة مكشوفة من كافة المدرسين والطلاب والعاملين والحراس في جامعة الإيمان، وبضمنهم مئات العاطلين عن العمل من خريجي هذه الجامعة الدينية، إلى جانب حضور محدود لبعض الشخصيات القبلية من عائلة أل الأحمر التي كانت تشكل محورا قويا في النظام العائلي السابق ، حيث حاول ذلك الملتقى تأسيس ما تسمى (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) بصورة غير شرعية وبحضور رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المملكة العربية السعودية ، وبأسلوب مخالف للقانون الذي لا يجيز إشهار أي حزبٍ سياسي أو منظمة غير حكومية قبل الحصول على ترخيص من لجنة الأحزاب والتنظيمات السياسية أو وزارة الشؤون الاجتماعية، وبشرط حضور ممثل عن إحدى هاتين الجهتين للتأكد من سلامة إجراءات التأسيس وانتخاب الهيئات القيادية في ضوء قانون الأحزاب والتنظيمات السياسية أو قانون المنظمات والجمعيات غير الحكومية .
واللافت للنظر أنّ مؤسسي تلك الهيئة التي ولدت ميتة بفضل صمود ومقاومة المجتمع المدني لها على الرغم من تواطؤ بعض رجال الرئيس السابق وأحزاب (اللقاء المشترك) مع ذك المخطط السعودي ، حاولوا إضفاء الشرعية الدينية عليها من خلال الزعم بأنها قامت بموجب تكليف إلهي من رب السماء، يسمح لعصبة من رجال الدين المشتغلين في السياسة والعمل الحزبي بإنقاذ سفينة البلاد والعباد من الغرق، حيث زعمت تلك العُصبة التي حاولت تأسيس ذلك الكيان غير الشرعي أن البلاد سقطت في المعاصي والحفلات الغنائية والموسيقية والمهرجانات السياحية، وغرقت في الاختلاط الذي يسبب الفساد الأخلاقي والرذيلة، بعد أنْ أصبح (شيطان النساء) ينشر الفسوق والمجون في كل مكان يلتقي فيه الرجال والنساء، سواء في مواقع العمل والإنتاج والمدارس والجامعات والمعسكرات، أم في المجمعات والأسواق التجارية والمطاعم وحافلات النقل العام ومحلات الانترنت والساحات والحدائق العامة، والشوارع والمتنفسات الطبيعية والمطارات والموانئ والمستشفيات والمراكز الانتخابية.
ولم يكتف رجال الدين الحزبيون الذين سعوا في عام 2008 الى تأسيس ( هيئة الأمر والنهي ) بهذا القدر الخطير من تفسيق المجتمع والتشكيك في أخلاقياته وفضائله، بل إنهم تطاولوا على المؤسسات الدستورية للدولة والأجهزة الحكومية ومنظمات المجتمع المدني ، بالقول إنّها أصبحت تحكم بمناهج كُفرية وشركية وإباحية، فيما تعرضت الصحافة لهجوم شرس ، وصل إلى حد اتهامها بالدعوة إلى الحرية الجنسية وإشاعة الفاحشة ، تحت مسمى ((حرية الصحافة)) التي قال البيان الصادرعن ذلك الملتقى إنّها تندرج ضمن (( المخططات الصليبية والشيعية)) التي تستهدف القضاء على الهوية الإسلامية ليمن الإيمان دولةً وشعباً ، بحسب البيان الصادر عن ذلك الملتقى سيئ الصيت !!
و لايزال ماثلا في الأذهان ذلك المشهد الذي رفع فيه كبيرهم الذي علمهم السحر أثناء إلقاء كلمته كتيباً صغيراً، تمّ توزيعه على الحاضرين بتوقيع عدد قليل من رجال الدين الحزبيين وبعض الدعاة وخطباء المساجد، وتضمن فتوى بتحريم مشاركة النساء في مجلس النواب ، وقد زعم الموقعون على ذلك الكتيب ( أنّ مشاركة المرأة في مجلس الوزراء ومجلس النواب مخالفة لشريعتهم، وانها ستؤدي الى انتشار الرذيلة في المجتمع، وستفتح الباب لتسابق النساء على الخروج إلى الانتخابات وانجذاب الرجال اليهن والى زينتهن وروائحهن العطرة، حيث سينشأ عن ذلك فوضى جنسية)!!
كما طالب الموقعون على ذلك الكتيب بمنع المرأة من العمل، لأنّ اختلاطها بالرجال في مواقع العمل سيؤدي إلى إنشاء علاقات عاطفية وجنسية غير مشروعة، وإغراق البلاد بالأولاد غير الشرعيين !!
وعند هذه النقطة يتم استدعاء خبرة الإرهاب ودمجها بأدوات (الأمر والنهي)، ولا بأس هنا أنْ يتم تجميد الشكل الجهادي المسلح للإرهاب، واستخدام إرهاب التكفير وإرهاب التفسيق ضد الدولة والمجتمع، كوسيلة للانقلاب على التعددية والشراكة الوطنية والاستيلاء على السلطة، وهو ارهاب غريب على مجتمعنا وبلادنا التي لا يمكن أن تكون ملاذاً آمنا لأي شكل من أشكال الارهاب .
والثابت أنّ الطريقة التي تمّ بها التحضير لإشهار ذلك البيان تحت واجهة ( جامعة الايمان ) انطوت على خطاب سياسي انقلابي كهنوتي يتعارض مع الخطاب السياسي والإعلامي الذي درج الجناح المدني في حزب ((الإصلاح)) على تسويقه من خلال أحزاب ((اللقاء المشترك)).. لكنّ أغلب ناشطي الجناح السياسي المدني في حزب ((الإصلاح)) حرصوا على أنْ يمسكوا العصا من الوسط ، طوال الفترة الماضية التي سادها نقاش ساخن حول قضية حماية الطفولة وضرورة تحديد سن آمنة للزواج ومنع إباحة نكاح الصغيرة ومفاخذة الرضيعة تحت مسمى الزواج الشرعي .
ويبقى القول أن الجناحين الكهنوتي والسياسي لحزب التجمع اليمني للإصلاح ، كانا يعملان بشكل منسق مع مركز القوى والنفوذ في السلطة ، لتأزيم البيئة السياسية في البلاد في إطار شراكة أوليغارشية كانت تهيمن على مصادر القوة والثروة والموارد السيادية ، قبل أن يتشظى ذلك النظام في فبراير 2011 ،حيث انتقلت كافة مراكز القوى والنفوذ الى الاستقواء العلني بالأجانب ، وتمهيد الطريق للعدوان السعودي الأميركي الصهيوني على اليمن بشكل سافر ، على نحو ما سنتناوله لاحقاً..
ويبقى القول إن أحزاب السلطة والمعارضة دأبت على الهروب من خيار الحوار والشراكة الوطنية ، إلى خيار المكايدة والمجابهة والإقصاء والمتاجرة بالشعارات والإفراط في تشويه الحقائق ، واختارت خيار اللجوء إلى الشارع ، وهو خيار يعكس منطقاً سياسياً شمولياً ومتطرفاً، ويفقد هذه الأحزاب القدرة على استيعاب المتغيرات والمشاركة في صناعتها ، بعد أن تصبح عاجزة عن التخلص من قيود اللعبة العمياء لمشاريع الشوارع .
ولا نبالغ حين نقول إنّ تناقضات الخطاب السياسي والإعلامي لأحزاب السلطة والمعارضة إزاء قضية مكافحة التطرف والإرهاب والأعمال الخارجة على القانون كشفت الإفلاس القيمي لذلك الخطاب وسقوطه في مستنقع الانتهازية السياسية، وإدمانه على البحث عن فرص ضائعة لتصفية حسابات سياسية وحزبية ، وتسويق ذرائع واهية لتبرير الجرائم الإرهابية والأعمال الخارجة على القانون وتبرئة مرتكبيها والتقليل من مخاطرها على مستقبل الديمقراطية وحياتنا الجديدة بشكل خاص، ومصالح الوطن والمجتمع والشعب بشكل عام .
من نافل القول إنّ المنطلقات الفكرية والسياسية لجرائم الإرهاب والأعمال الخارجة على القانون التي واجهتها بلادنا منذ عام 1990، كانت غائبة تماماً عن الخطاب السياسي والإعلامي لحزب (الإصلاح) ، بعد ان أسرف خلال السنوات السابقة في إخراج المواجهة مع الإرهاب من سياقها الموضوعي إلى سياق آخر يتسم بالكيدية تحت غطاء الدفاع عن حقوق الإنسان، فيما كان هذا الخطاب يتجاهل تماماً أنّ هذه الحقوق موجودة في البنى الدستورية والسياسية والإعلامية والثقافية لنظامنا الديمقراطي التعددي، مقابل غيابها المطلق عن منظومة الأفكار المتطرفة والمتشددة التي تغذي الإرهاب وتوجه نشاط الجماعات المتطرفة بدعاوى دينية زائفة وملفقة، ناهيك عن أنّ الفكر السياسي الأحادي للجماعات الإرهابية التي يجب أن تواجهها الدولة بمختلف مؤسساتها التعليمية والثقافية والإعلامية والتربوية والأمنية لا يعترف بالديمقراطية وبحقوق الإنسان، ويسعى إلى بناء دولة دينية استبدادية شمولية على غرار نموذج نظام طالبان، وهي دولة لا مكان فيها للتعددية السياسية والفكرية وانتخاب الحكام والهيئات التمثيلية المنتخبة عبر صناديق الاقتراع ، ولا تعترف بضمان حقوق الإنسان، وحقوق المرأة.