لا حدود لعشوائية أمريكا في التعاطي مع المؤسسات والمنظمات الدولية التي لم تسمح لها واشنطن يوماً بأن تمارس عملها الطبيعي في المساهمة ببسط قواعد الأمن والاستقرار في هذا العالم، ومنذ بداية تأسيس هذه المنظمات، سعت واشنطن جاهدةً لتحويلها إلى مكتب لتسيير أعمالها وتمرير قراراتها تحت غطاء دولي يجنّبها المساءلة والملاحقة القانونية عند ارتكابها لجرائم حرب وغيرها من الأفعال الشنيعة التي عودتنا واشنطن على مرارتها، وعندما تأتي الظروف الدولية معاكسة لتطلعات واشنطن لا ضير في الانسحاب من هذه المنظمات والمؤسسات لا بل مهاجمتها واتهامها بأنها عديمة الجدوى، كما هو الحال اليوم مع ” المحكمة الجنائية الدولية”.
في الأمس هاجمت أمريكا المحكمة الجنائية الدولية، عبر مستشارها للأمن القومي جون بولتون، الذي هدّد قضاتها بمجموعة من الإجراءات، في حال استهدفت تحقيقاتها أشخاصاً من أمريكا أو إسرائيل أو “حلفاء أمريكا الآخرين”، واعتبر أن محكمة الجنايات الدولية “غير مسؤولة وغير فعّالة، بل خطيرة”.
في الحقيقة لا يمكن إعفاء واشنطن من عدم فاعلية هذه المؤسسة الدولية، فهي المساهم الأكبر في تعطيل عملها ومنعها من تطبيق القانون الدولي بحق الذين يرتكبون جرائم حرب، علماً أن أمريكا كانت من أوائل الدول التي وقّعت على “ميثاق روما” المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية في 17 يوليو 1998.
وتأسست المحكمة الجنائية الدولية بصفة قانونية في الأول من يوليو 2002 بموجب ميثاق روما، الذي دخل حيز التنفيذ في 11 أبريل من السنة نفسها، بعد تجاوز عدد الدول المصادقة عليه ستين دولة، وبعد أشهر قليلة من بدء عمل المحكمة الجنائية وجدت واشنطن أن لا مصلحة لها في الانضمام إلى هذه المحكمة وانسحبت أمريكا من “نظام روما” في مايو 2002، في عهد الرئيس الجaمهوري جورج بوش الذي زجّ بالجيش الأمريكي في أفغانستان بعد أحداث 11 سبتمبر.
واشنطن كانت تدرك جيداً بأنها قادمة على سلسلة انتهاكات بحق الإنسانية والقانون الدولي، ولذلك لا مصلحة لها في الانتماء إلى منظمة تعرقل آلية عملها، وما حصل بعد أحداث 11 سبتمبر كان كارثة على المنطقة برمتها، وما فعلته واشنطن لم يقتصر على ادعاءاتها بمحاربة “الإرهاب”، فما هو هذا “الإرهاب” الذي تحاربه واشنطن منذ ما يقارب العقدين بكل إمكاناتها العسكرية والاستخباراتية وما زال يتكاثر حتى دمّر دولاً بأكملها وأبعد الأمن والأمان عن شعوب المنطقة، وضمن هذين العقدين شهدنا من واشنطن أفعالاً يندى لها الجبين، مثل: غزو العراق وجرائم سجن أبو غريب وفضائحه التي اعترف بشناعتها الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما عندما قال في ديسمبر 2014 أن أمريكا مارست “التعذيب” بناء على تقرير لمجلس الشيوخ، وبذلك يمكن للمحكمة الجنائية الدولية أن تملك عناصر اتهام ضد واشنطن.
وظهر بعد ذلك تنظيم الدولة “داعش” وادّعت واشنطن أنها تحاربه وعوضاً عن محاربته والقضاء عليه انتشر هذا التنظيم حتى وصل دولاً مثل سوريا ولبنان وتضرّر منه الجميع، ولم ينتهِ هذا التنظيم لولا تضافر جهود الجيشين العراقي والسوري والحلفاء وقوى المقاومة.
وبناءً على ما تقدم لم يكن مستغرباً من بولتون أن يقول في الأمس، إن المحكمة تهدد -بشكل غير مقبول- السيادة الأمريكية والأمن القومي الأمريكي، لافتاً إلى أن بلاده “ستلجأ لاستخدام ما تراه ضرورياً لحماية مواطنيها وحلفائها ضد إجراءات هذه المحكمة غير المشروعة”، ومن تلك الإجراءات التي هدد بولتون بتطبيقها، منع دخول قضاة المحكمة وممثلي الادعاء إلى أمريكا، وفرض حظر على أموالهم، ومحاكمتهم أمام القضاء الأمريكي.
وحذر بولتون من فتح أي تحقيق بحق عسكريين أمريكيين شاركوا في الحرب ضد أفغانستان.
وكانت المدعية العامة في المحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودا أعلنت في مطلع نوفمبر 2017 أنها ستطلب من القضاة السماح بفتح تحقيق حول جرائم حرب محتملة قد تكون ارتكبت في أفغانستان خصوصاً من قبل الجيش الأمريكي، وتحدثت بنسودا عن تحركات مشتبه فيها لعسكريين ورجال استخبارات أمريكيين في أفغانستان، وقالت في تقرير يستند إلى أبحاث أولية، إن القوات الأمريكية قد تكون ارتكبت جرائم حرب في أفغانستان بتعذيب معتقلين بين عامي 2003 و2004.
في مايو الماضي، طلب وزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي من المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي التحقيق في جرائم ارتكبتها إسرائيل، والتقى بفاتو بنسودا المدعية العامة للمحكمة في هولندا.
وقال المالكي إن هذا “اختبار للمحكمة لا ينبغي أن تخسره”، مضيفاً: إن “دولة فلسطين تسعى إلى العدالة وليس إلى الانتقام”.
وردت الحكومة الإسرائيلية على إحالة السلطة الفلسطينية قضية الاستيطان وجرائم الحرب الإسرائيلية ضد الفلسطينيين إلى المحكمة الجنائية الدولية واصفة إياها بـ “خطوة تبعث على السخرية”.
ولم يدخر بولتون جهداً في الدفاع عن الإسرائيليين يوم أمس، إذ قال بالحرف الواحد: “في حال استهدفتنا هذه المحكمة أو استهدفت إسرائيل أو حلفاء آخرين لنا، لن نقف مكتوفي الأيدي”، معلناً عن سلسلة من الإجراءات الممكنة من بينها عقوبات تستهدف العاملين في المحكمة.
أمريكا لم تمارس هذه الازدواجية فقط تجاه الفلسطينيين الذين لم يطالبوا بشيء سوى العدالة، بل مارست نفس الأمر بطريقة مختلفة مع روسيا عندما قررت الانسحاب من المحكمة الجنائية، حيث انتقدتها بشدة، لكنها في نفس الوقت لا تقبل هي أيضاً سلطة هذه الهيئة القضائية التي تحدثت مراراً وتكراراً عن تحقيق ضد عسكريين وجواسيس أمريكيين في أفغانستان.
ما سبق يؤكد أن النظام الدولي يترهل بسبب تصرفات واشنطن وازدواجيتها في التعاطي مع الأمور التي تعارض سياستها ومصالحها، وهذا الكلام يؤكد أحقّية أن واشنطن لا تنفع معها إلا استراتيجية القوّة.