
تحليل / عبدالله عمر بخاش –
يبدو أن مطلب الدولة المدنية الذي نادت به الثورة السلمية في اليمن يوما ما يواجه اليوم تحديات كبيرة فهو من ناحية في حالة صراع دائم مع سلطة القبيلة التي ترفض الاندماج في المجتمع المدني ومن ناحية أخرى محل قطيعة ورفض من قبل بعض الجماعات الدينية التي ترى فيه مؤامرة غربية لعلمنة الدولة وطمس هويتها الإسلامية وهو ما يعد بمثابة اختبار حقيقي لثورة الربيع اليمني 2011 ومدى قدرتها على المضي قدما في مسارات التغيير والتحديث وبناء الدولة.
ويعتقد كثير من الشباب أن قيام دولة مدنية حديثة في اليمن أمر ممكن وغير مستبعد لكن تحقيق ذلك المطلب لن يكن بالأمر السهل أوالسريع بل يتطلب مزيدا من الوقت والمراحل الممتدة لاجتثاث ثقافة الفوضى والتخلف والفساد قبل الشروع في تأسيس الدولة المدنية كما يقول مصطفى القحفة وهو أحد الناشطين الشباب في الثورة السلمية باليمن. وأضاف في حديثه الى “الثورة”: ” يستلزمنا وقتاٍ طويلاٍ لإحداث التغيير المنشود في حياة الناس وفي ثقافة المجتمع أولاٍ نتيجة الرواسب الثقافية التي تعمقت في المجتمع على مدى ثلاثة عقود حتى نتمكن بعدها من تلبية مطلب الدولة المدنية الحديثة” مشيراٍ إلى أن “الإنسان اليمني حضاري بطبعه ولا يحتاج إلا لنظام ودولة مؤسسات تسودها قيم الحرية والعدالة والمساواة ويحتكم الجميع فيها الى سلطة الدستور والقانون”.
ومن وجهة نظر البعض فإن إمكانية قيام دولة مدنية في بلدُ كثيراٍ ما تحول تقاليده القبلية دون قيام مؤسسات مدنية فاعلة تبدو شبه مستحيلة مع الأخذ في الاعتبار أن ذهنية القبيلة ترفض أي بناء معرفي قد يهدد سلطتها أو يقلص نفوذها.
لكن القحفه قلل من شأن ذلك التقاطع الحاد بين سلطتي القبيلة والدولة المدنية مستشهدا بانخراط القبيلة في الثورة السلمية وتخليها عن حمل السلاح وقدرتها على التأقلم والتكيف مع مقتضيات النضال السلمي وقال:”مشكلتنا الفعلية لا تكمن مع القبيلة التي أسقطت كل الرهانات بوعيها وسلوكها الحضاري بل إن الوعي الثقافي الذي أوجدته الثورة السلمية أثبت إمكانية تعايشها مع الجميع رغم كل التباينات وقابليتها للتمدن والتحضر”.
بيد أن البعض يبدو متشككاٍ حيال ذلك الطرح وغير مطمئن بالقدر الذي يذهب عنه مخاوفه وقلقه من تزايد نفوذ مراكز القوى واختراقهم للسلطة السياسية ومواقع صنع القرار فيها باسم الدولة المدنية وفي مقدمتهم المؤسسة القبلية التي تعد أحد الأقطاب الرئيسة الفاعلة في معادلة التوازن السياسي في اليمن.
ويعتقد كثير من الباحثين والمهتمين بالشأن الديمقراطي في اليمن أن المؤسسات التقليدية كالقبيلة تشكل عائقاٍ حقيقياٍ ليس أمام قيام نظام ديمقراطي فحسب بل أمام قيام مؤسسات مدنية حقيقية فاعلة تجسد سيادة النظام والقانون في الدولة.
ومن الشواهد التي يمكن أن تنساق في ضوء ذلك نتائج الانتخابات النيابية التي تثبت في كل دورة انتخابية حقيقة ما يجري وكيف أن الولاءات القبلية هي الأكثر فعالية من أي ولاءات تنظيمية أو حزبية وهي الأكثر قدرةٍ على تحديد فرص فوز أياٍ من المرشحين للوصول الى مجلس النواب والأكثر حظاٍ لبلوغه.
ويبدو واضحا أيضاٍ أن فوز المرشحين بعضوية مجلس النواب لا يرتبط في المقام الأول بكفاءة المرشحين أو ببرامجهم الانتخابية بقدر ما يتصل بشكل وثيق بالولاءات الأسرية والقبلية ويتضح ذلك جلياٍ بالنظر إلى التركيبة البرلمانية التي تكشف أن عدد المشائخ والوجهاء والأعيان في البرلمان يفوق أعداد الطبقة الوسطى من النخب المثقفة والتكنوقراط.
ومع ذلك يتحدث باحثون يمنيون عن عدد من المعضلات التي تقف اليوم في طريق التحول إلى الدولة المدنية في اليمن وتتصدرها مسألة الوعي القبلي ومحاولة البعض استدعاء سلطة المؤسسة القبلية والرهان عليها في صناعة التغيير وبناء الدولة المدنية الحديثة وهو ما اعتبره الباحث نجيب غلاب تهديد لمستقبل الدولة اليمنية والقيم الحضارية فيها.
وذكر في كتاب له بعنوان (المعارضة والحاكم في اليمن) أن تفعيل الوعي القبلي في المرحلة الراهنة يمثل قتلاٍ للثقافة المدنية والوعي الجديد الذي بدأ ينمو بقوة في البيئة اليمنية وأن محاولة إخراج القبيلة من معقلها الاجتماعي والزج بها في السياسة يجعلها تسحب ثقافتها إلى المجال العام وتصبح ثقافتها ووعيها قوة طاغية تفرض نفسها ووعيها العصبي وثقافتها المغلقة على الحياة المدنية.
وفي هذا السياق يتذكر اليمنيون بنوع من الإعجاب تجربة الحكم الفريدة للرئيس الأسبق إبراهيم الحمدي (4791-7791م) التي حاول من خلالها التأسيس للدولة المدنية في اليمن والتحرر من سلطة القبيلة لكنهم أيضاٍ يدركون جيداٍ كيف انتهت هذه المحاولة الجريئة مع سقوط الرئيس الحمدي شهيداٍ في العاشر من أكتوبر 1977 مخلفاٍ وراءه تجربة نظام حْكم ناجح أطاحت به سلطة القبيلة.
وفي حقيقة الأمر فإن إشكالية (الدولة – القبيلة) في اليمن وتنازعهما سلطة النفوذ والقوة يمكن أن يعزى إلى خطأ ارتكبته القوى العصرية التي أسست للدولة بعد سقوط نظام الملكية في اليمن نهاية سبتمبر1962 وفقاٍ للباحث في العلوم السياسية نجيب غلاب وذلك عندما حاولت تلك القوى اختراق المجتمع بإدخال النخبة القبلية في منظومة الحكم إلا أن النخبة القبلية بحكم هيمنة وعيها القبلي الذي يرى في الدولة محل للغنيمة وظفت الدولة لتعزيز نفوذها وخدمة مصالحها وعزلت القبيلة عن الدولة في الوقت ذاته ومع تزايد النفوذ والثروة لدى المشائخ تحولت النخبة المشائخية إلى قوة رادعة للدولة كلما حاولت الأخيرة بشكل جاد تغيير ثقافة القبيلة أو تحجيم دورها.
ويبرز ذلك بوضوح من خلال تمسك الفكر القبلي بالقوة ودعمه لكل مظاهرها فقد عمدت القبيلة عبر مراحل شتى إلى توسيع نفوذها وتدعيمه باختراق المؤسسة العسكرية واحتكار الكثير من المناصب العليا فيها لصالحها وعقد تحالفات عسكرية خارج إطار المؤسسة العسكرية عبر القبائل الموالية لها لممارسة الضغوط على الدولة بهدف الإبقاء على نفوذها القبلي وضمان استمرارية إذعان النظام الحاكم لسلطتها مما يحد معه أي إمكانية لتطبيق القانون المدني في البلاد.
يقابله بنفس درجة الاهتمام سعي السلطة في اليمن ماضياٍ وحاضراٍ لاحتواء المؤسسة القبلية وضمان ولاءها بأشكال مختلفة تخدم سياساتها الرامية إلى الإطباق على الشعب وكما يذكر الدكتور عبد العزيز المسعودي فإن “المؤسسة العسكرية في اليمن كانت تتعايش جنبا إلى جنب مع المؤسسة القبلية وتمثلان مرتكزات بنيان السلطة القاهرة التي تنهض بدور مزدوج بحيث يصعب التمييز بين دولة القبيلة وقبيلة الدولة”.
ويشير المسعودي في أطروحته العلمية (اليمن المعاصر من القبيلة إلى الدولة) إلى أن “هذه الوضعية غير الطبيعية ترتب عليها امتلاك المؤسستين العسكرية والقبلية امتيازات سياسية واقتصادية تبدأ بالإعفاء الضريبي وعدم التزام منتسبيها بالقوانين العامة نظرا لتعارضها مع أعراف القبيلة وتقاليدها ويصل الأمر بمرجعيتها إلى حدود المشاركة في اقتسام غنائم السلطة المتعددة الأوجه”.
في الجانب الآخر تْظهر بعض الاتجاهات الفكرية ذات الخلفية الدينية مناهضةٍ شديدة لمشروع الدولة المدنية استنادا لبعض الرؤى والاجتهادات الدينية التي ترى في الترويج لنموذج الدولة المدنية مؤامرة خبيثة تندرج ضمن إستراتيجية غربية متكاملة صنعتها العديد من المؤسسات الفكرية الكبرى المؤثرة على صناعة القرار في الدول الغربيةº لخدمة مصالحها الإستراتيجية وضمان تحقيقها عن طريق علمنة المجتمعات المسلمة وتقويض هويتها الإسلامية.
وفي هذا الإطار أشارت مقاربة علمية حديثة لمفهوم الدولة المدنية من إعداد الدكتور إسماعيل السهيلي رئيس قسم العلوم السياسية بجامعة الإيمان والدكتور أحمد الزنداني أستاذ العلوم السياسية بجامعة صنعاء إلى أن مفهوم الدولة المدنية هو مفهوم مشبع بدلالات فكرية وإستراتيجية ينصرف إلى تلك الدولة التي قدمتها أوروبا للعالم بعد أن تخلصت من نموذج الدولة الثيرقراطية.
وأوضحا في دراستهما أن لمفهوم الدولة المدنية ثلاثة أركان مترابطة بشكل عضوي ينصرف الأول إلى حق الشعوب في سن التشريعات على أسس مدنية ورفض الخضوع لأي سلطة من خارج البرلمان حتى وان كانت صادرة عن الله تعالى فيما ينصرف الركن الثاني إلى المساواة المطلقة بين مواطني الدولة بغض النظر عن الفروق من حيث الدين أو الجنس وغير ذلك وأما الركن الثالث فهو يتعلق باعتماد الديمقراطية آلية لضمان عدم استبداد السلطات الحاكمة وتمكن الشعوب من مراقبة حكامها ومسائلتهم وتبديلهم وعزلهم ومحاكمتهم في حال استخدامهم للسلطات الممنوحة لهم بشكل غير مشروع.
كما توصلت الدراسة إلى أن استمرار الجدل الذي يثيره مصطلح الدولة المدنية في الواقع العربي المعاصر يعد أمرا مقصودا الهدف منه إعطاء دثارا فكريا ملبسا وملتبسا يْمكن التيار العلماني من الترويج لإقصاء الشريعة الإسلامية والتيارات الإسلامية من الحياة السياسية وفي ذات الوقت يجعل الالتزام بنموذج الدولة المدنية شرط ابتداء وبقاء للنفاذ إلى ممارسة العمل السياسي.
ومن المحتمل أن يجد مثل هذا الطرح أرضيةٍ خصبة ويلاقي قبولاٍ من العامة في ضوء اسقاطات أحداث الشارع المصري الأخيرة التي قادت الى عزل الرئيس المصري محمد مرسي واسقاط مشروع حكم الإخوان المسلمين في أعقاب موجة من الاحتجاجات الشعبية العارمة التي قادتها حركة تمرد.
ويمكن القول أن انضمام عامل الرفض الفكري المستند إلى خلفية ايديولوجية الى جانب عامل سلطة القبيلة ووعيها التقليدي معا في جبهة واحدة لمناهضة مطلب الدولة المدنية يعقد الأمر كثيراٍ ويضع مسألة التغيير على المحك مما يعكس حاجة اليمن للمزيد من الوقت والصبر والمرونة الكافية لتحقيق ذلك المطلب الذي لن يكن بلوغه بالأمر السهل أوالسريع.