التحديات المعاصرة تحتاج الى حلول جديدة
احمد الحبيشي
يعلمنا تاريخ الحضارات – بما فيها الحضارة العربية الإسلامية – أنه لا توجد ثقافة مستقلة كلياً عن الثقافات الإنسانية الأخرى ، لأن الثقافات محكومة بآليات وأنساق التفاعل والتثاقف والتلاقح حتى وإن كان ذلك يتحقق بنسب متفاوتة.
والحال أن نسب التفاوت في هذه الآليات والأنساق ، محكومة هي الأخرى بقدرة كل ثقافة على التجدُّد والاستجابة لتحديات التحول في أزمنة الانعطافات التاريخية الكبرى ،أي بقدرتها على إبداع حلول معاصرة للمشاكل الجديدة التي تبرز وتستجد في مجرى تطور مجتمعاتها ، بدلاً من النزوع إلى الإقامة الدائمة في الماضي، والمحافظة على البنى المتكلّسة للثقافة الموروثة ، والإفراط في الوهم بإمكانية إعادة إنتاج حلول ماضوية لإشكاليات حضارية معاصرة ، أو الاستنساخ الأعمى لحلول جاهزة أبدعتها ثقافات أخرى .
من المفيد بهذا الصدد الإحاطة بمضمون دراسة قيِّمة حول موقف بعض الجماعات الإسلامية من الغرب نشرها المفكر الإسلامي حسين أحمد أمين في مجلة ” العربي” الكويتية في عددها رقم 402 الصادر في شهر مايو 1992م ، وقد تضمنت هذه الدراسة مقاربة تاريخية بين هذا الموقف وبين موقف مماثل له في الأديان الأخرى ، مشيرة إلى أن التجارب التاريخية دلت على ظهور جماعات دينية انعزالية في المجتمعات التي تمر بهزات عنيفة ، حيث تميل هذه الجماعات إلى إغلاق الأبواب أمامها وتنزع إلى العيش في طوطم خاص بها ، وتتجنب الإ‘نفتاح أو الإتصال بالتيارات العلمية والفكرية التي عرفتها تلك المجتمعات في أوقات مختلفة .
ويوضح د. حسين أمين فكرته بتفصيل أدق بقوله :
«كان هذا هو ما حدث أيضاً في العالم الإسلامي مع بداية الثلاثينات من هذا القرن حين بدأت جماعات إسلامية تظهر دعوة شديدة الاختلاف عن دعوة المصلحين الإسلاميين من اتباع الطهطاوي ومحمد عبــده ، بل ورأت في هؤلاء المصلحين دعاة التغريب ، إذ هم لم يطعنوا في قيم الغرب بل انتحلوها للإسلام » .
ويرى حسين أمين أن هذه الجماعات اعتقدت منذ ظهور تنظيم “الإخوان المسلمين” بأن الإسلام قادر على التصدي لهذه التحديات بمفرده دونما حاجة إلى اقتباس من حضارات أخرى، غير أنهم لم يفلحوا إلا في ابراز حفنة من النقاط والقضايا التي ركزوا عليها والحــّوا في تكرارها إلى حد الإملال واعني بها مسائل الربا وفائدة البنوك وسفور المرأة وتحديد النسل والحدود والنقور من استخدام مناهج البحث العلمي والتاريخي في العلوم الإنسانية.
وبحسب تحليل المفكر الإسلامي حسين أمين فإن هذه الجماعات وبضمنها جماعة “الأخوان المسلمين” تفهم المعرفة والمعلومات بأنها ثابتة وخالدة، وقد نجم عن ذلك الفهم ثلاث عواقب :
الأولى : أن المعرفة عندهم لم تعد عنصراً ابداعياً ديناميكياً في الفكر مما أسهم في قهر كل نشاط فكري حر بدعوى مخالفته لعقيدة السلف .
الثانية : أن اعتبار المعرفة دائرة مغلقة وثابتة ، يجعل من الصعب تقبل أو إبداع المعارف الجديدة ما لم تجد لها سنداً في فكر السلف الأقدمين .
الثالثة : أن سبيل اكتساب المعرفة هو تجميعها من كتب الأسلاف أو الكتب الحديثة القائمة على كتب الأسلاف لا التحليل والاستنباط والتجربة والفكر الحر ، وكلها عواقب خلقت عند غير المسلمين تصوراً خاطئاً بأنه لا يمكن أن يكون للإسلام مستقبل ما دام عاجزاً عن مسايرة التطور العلمي والتكنلوجي للحضارة المعاصرة.
يحلو للخطاب السلفي الشعبوي الراديكالي أن يستشهد في بعض مداولاته الفكرية بالتجربة اليابانية التي تمكنت من النهوض بعد هزيمتها في الحرب الثانية ، دون أن تتراجع عن اصوليتها الكونفوشية ، بيد أن أنصار هذا الخطاب يتجاهلون ميكانيزمات القدرة اليابانية على الإستجابة للتحديات الحضارية ، فقد وقع الخطاب السلفي العربي في وهم تاريخي عندما فاته التمييز بين الاستعمار الغربي الحديث ومن ورائه حضارته الرأسمالية الجديدة، وبين الحملات الصليبية وإرثها في العصور الوسطى ، حيث ركزت اليابان على الطابع الرأسمالي للحضارة المعاصرة ، ثم استوعبت قيمها الحديثة وتلاقحت معها في سياق حضاري مشترك ، بعيداً عن أي توصيف ديني او ثقافي او جهوي ، بعكس ما بفعله الخطاب السلفي في العالم العربي والإسلامي حين يصر على توصيف الحضارة المعاصرة جهوياً ( الغربية ) او دينيــاً (المسيحية).
والثابت أن السلفية نجحت في صد الحملات الصليبية ولم تنظر اليها كحرب دينية مع انها كانت تشتمل على شيء من هذه ، بل اطلقت عليها اسم حروب الفرنجة ، ثم نامت بعدها مطمئنة إلى انتصارها التاريخي وإلى تفوقها على الغرب المسيحي الفرنجي ، الأمر الذي فوّت عليها ادراك معنى خمسة قرون من النهضة الحضارية الإنسانية الحديثة ، ومن التحولات الجوهرية غير المعهودة من قبل في مجالات الفكر والعلوم والاجتماع والتقنية ، وكانت النتيجة إن خسرت معارك الحرب بعد أن فاتها الإسهام في معركة الحضارة ، ولم يظهر عليها انها استوعبت الأبعاد الكاملة لأزمتها التاريخية بعد تلك الهزائم إذْ لم تقدم استجابة حاسمة للتحدي بعد!!
يقيناً أن ثمة حاجة ماسة لمعالجة فجوة التخلف الحضاري التي يعيشها العالم العربي والإسلامي .. ولا يمكننا عبور هذه الفجوة الأّ بإكتشاف الإسلام في داخل هذه الحضارة التي أعطت الإنسان انجازات عظيمة ، ونقلت حياته الى مستوى متطور ، حيث تعلق البشرية على منجزاتها العلمية والتقنية تطلعات مشروعة لتجاوز مشاكل الفقر والتخلف والمرض .
مامن شك في أن التمسك بالخطاب الثقافوي الملتبس بالدين سيقودنا اما الى الإنعزال وبالتالي تعميق الفجوة الحضارية ، أو الخضوع لما يريده ورثة الخطاب الاستعماري في الغرب ، وهو خطاب ثقافوي أيضاً يسعى الى فرض خيارين لا ثالث لهما ، خيار الإنعرال او خيار الخضوع.
لعل المطلوب هو إحياء فكر رواد التنوير وتطويره بعد إعادة قراءته بالنظر الى المتغيرات الهائلة التي حدثت في بنية الحضارة المعاصرة خلال القرنين الماضيين ، وتجاوزت بالضرورة محددات سؤال النهضة الذي طرحه رواد فكر التنوير في العالم العربي والإسلامي في القرن التاسع عشر ، لأن إحياء فكر رواد التنوير يؤهلنا لإكتشاف القيم الحضارية الحديثة ، وهي لا تتعارض بالضرورة مع القيم الإسلامية الصحيحة والأصيلة .. مع الأخذ بعين الإعتبار ان الحضارة الإسلامية أسهمت في صنع القيم الحديثة عبر سيرورة التحولات الحضارية .
ولاريب في أن الثقافة السلفية البدوية التي ابتعدت عن جوهر الإسلام ، غير مؤهلة لإكتشافه داخل حضارة العصر ، ناهيك عن أن النزعة الماضوية لهذه الثقافة كان لها دور كبير في وجود هذه الفجوة الحضارية ، والحيلولة دون عبورها منذ ظهورها في القرنين الخامس والسادس الهجريين ، اللذين يؤرخان لبداية تراجع الحضارة الإسلامية.. وعليه فإن نقد هذه الثقافة يبدأ بإعادة الاعتبار للعقل الذي تعرض للعدوان والتغييب على يدها منذ حوالي تسعمائة عام!!
وحين نعيد الاعتبار للعقل ورواده الأوائل ، سيصبح بالإمكان التخلص من تأويل هذه الثقافة للإسلام ، وهو تأويل عاد بنا الى ثقافة الجاهلية وابتعد كثيراً عن الإسلام . ولابد أن يتكامل هذا النقد مع نقد آخر مواز لمظاهر الخلل في الحضارة المعاصرة ، وهو الخلل الذي يغذي الكثير من الإختلالات المسؤولة عن غياب التوازن في ميدان إنتاج واستهلاك الحضارة ، وتهميش غالبية شعوب وبلدان الكرة الأرضية ، ووقوع أكثر من نصف البشرية تحت خط الفقر ، وتصاعُد نزعات الهيمنة والسيطرة التي تسعى الى تكريس التبعية السياسية والإقتصادية والثقافية في العلاقات بين الدول والشعوب والثقـافـات ، وصولأً الى بروز ميول خطيرة تتجه نحو مصادرة التنوع الثقافي عبر فرض بعد واحد للسياسة الدولية والحضارة العالمية .
وحتى لا نخطئ الطريق يتوجب القول بأننا لسنا وحدنا من يهمه هذا النقد ، فهناك أوساط أكاديمية واجتماعية ودينية من الغرب والشرق تشارك على حد سواء في نقد مظاهر الخلل الذي يشوه بعض جوانب الحضارة الحديثة ، ولذلك فإن نقدنا لهذه الحضارة يجب أن ينطلق من الإيمان بالقيم الإنسانية المشتركة لمختلف الثقافات والأديان والأمم التي يوحِّدها مصيرٌ مشترك .. بمعنى أن يتكامل نقدنا للآخر مع النقد الذاتي الذي سبقتنا اليه قوى حية في الغرب أسهمت ولا تزال تسهم في نشر مبادئ الحرية والديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان والسلام والمساواة والتسامح الديني والتضامن الإنساني ، وتصدت ولا تزال تتصدى لنزعات السيطرة والهيمنة والإلغاء ، وتدعوا الى الحفاظ على البيئة وحماية الطبيعة وإعلاء القيم الإنسانية المشتركة .
خلاصة القول إن نجاحنا في النقد الإيجابي لمظاهر الخلل في الحضارة العالمية السائدة يتوقف على مدى نجاحنا في تأسيس رؤية ثقافية منفتحة على الآخر ، ومحفزة للعقل بوصفه أداة للتفكير الموضوعي والبحث العلمي ، الأمر الذي من شأنه أن يساهم في تطوير فهمنا للعالم والتفاعل مع متغيراته وتجاوز رواسب الجمود والتعصب والإنغلاق وغيرها من الكوابح التي تكرس الإقامة الدائمة في الماضي ، وتحول دون الخروج من فجوة الإنقطاع الحضاري ، وصولاً الى الإنتقال من ثقافة الهوية الى ثقافة المشاركة ، وهو المدخل الوحيد لمشاركة الشعوب والأمم والثقافات المختلفة في حراك الحضارة الإنسانية المعاصرة .