
حاوره/محمد محمد إبراهيم –
قوة الوحدة تكمن في مضامينها ومن التطرف أن تكون هي الدين وغيرها الكفر
بين السياسة والوجدان اليمني بون شاسع لا يقاس بفارق الزمن وأبعاد المكان بقدر ما يقاس بقيم الانتماء للهوية الوطنية المحمولة على ثبوت رسالة التعايش الانساني والعقدي والاجتماعي على خارطة تتحد رغم الحدود المصطنعة.. وفي الوقت الذي كانت فيه السياسة مصدراٍ أساسياٍ لوجع التشطير الذي رزح تحت ضيمه المجتمع اليمني سنين طويلة كانت عرى التواصل ووشائج القربى تزداد رسوخاٍ ومكانة في الذات اليمنية المشطورة نصفين بفعل شرخ السياسة.. ولم يأت الاعلان عن ميلاد إعادة الوحدة اليمنية في 22 مايو 1990م إلا فعلاٍ لا مفر للساسة منه استجابة لتطلعات الشعب المشطور والاعتراف الضمني بانسلاخ يد المؤثر الخارجي الدولي… لكن الأهم في هذه الوقفة الحوارية هو كيف عاشت اليمن ظروف ما قبل الوحدة¿ وماذا عن الجانب الاجتماعي ذي الوجدان الوحدوي في نفوس اليمنيين فكرياٍ وثقافياٍ واجتماعياٍ¿ وما علاقة السياسة بتحولات القناعات الجماهيرية¿ وأين كان جوهر الخطاب التشطيري¿ ولماذا تعود ذات النغمة إلى الواجهة كلما استطاعت السياسة جر الناس إلى مربع ردة الفعل على الاختلاف المستدعي لجذوره الماضوية¿.. وماذا عن حرب دولتي الشعب اليمني في عام 1979م التي شهدتها مناطق وقرى التماس الشطري¿ .. وما علاقة السياسة بالوحدة الوطنية قبل وبعد اعلان المشروع الوحدوي…¿
كل هذا وأسئلة أخرى طرحتها صحيفة الثورة على مستشار رئيس الجمهورية لشؤون الدراسات الاستراتيجية والبحث العلمي الدكتور فارس السقاف الذي شهد عن قرب حرب 79م حين كان أحد طلبة الثانوية المجندين في صفوف الدفعة الأولى لـ”خدمة الدفاع الوطني”.. والذي يتمتع بقدرات فكرية وثقافية وعلمية جمة جعلت منه مستقرئاٍ جيداٍ لمسار الأحداث السياسية ومنظومة التكوين الاجتماعي من منظور واقعي تغلب عليه المسحة العلمية…………… إلى تفاصيل الحوار
¶ دكتور فارس هذا الحوار.. من خطوط التماس التي كـان لكم تجربة فيها أثناء خدمة الدفاع الوطني بعد الثانوية عام 79م.. ماذا تختزل ذاكرتكم من قراءة الوجدان والفكر اليمني الوحدوي في تلك المرحلة¿
– بالعودة إلى ذلك الظرف الزمني والمكاني يسترجع كل الناس أن تلك الحالة كانت غير طبيعية في أن يعيش اليمنيون في انشطار وانقسام.. فكان الانسان اليمني مقسوماٍ إلى نصفين في صورة تجسد انشطار الذات والهوية وتحت ظروف وعوامل قسرية لم تصمد أمام المد الطبيعي الوجداني المتنامي تجاه إعادة الوحدة اليمنية كحلمُ يراود كل يمني وأتذكر إنني شهدت حرباٍ تعبر عن مفارقات النزوع إلى الوحدة وقسرية القبول بالدخول في مواجهات دامية بين الإخوة.. فبعد الثانوية كنت أؤدي خدمة الدفاع الوطني وكان توزيعي مع مجموعة من زملائي – يتجاوز عددنا (500) طالب- على اللواء الخامس مشاه مدعِم وكان لواء كبيراٍ قوامه نحو مايزيد عن (4000) فرد.. وكانت جبهاته متمركزة في محافظة البيضاء في السوادية وجبن وذي ناعم وغيرها وكانت تلك المناطق نقاط تماس حدودية متاخمة لدولة الشطر الجنوبي من الوطن.. وقد تجرعت هذه المناطق كثيرا من مآسي التشطير.. ولعل أبرز تلك المآسي قيام حربين الأولى في 1972م وفي 1979م.. شهدنا الحرب الأخيرة حيث كنا في اللواء الخامس مشاه الذي خاضت بعض جبهاته معارك مع إخوتنا في المناطق والقرى المتجاورة التي كانت تفصلها تماسات السياسة الشطرية من كلا الطرفين..
نتائج مؤلمة
¶ وماذا تتذكرون من النتائج المؤلمة لحرب 79م خصوصاٍ وأنتم طْلاب.. وهل شاركت في المعـــارك¿
– لم أشارك في المعارك لكنني وزملائي الطلاب عشنا جو الحرب والاستعداد لها ومن الصدف والنتائج المؤلمة في تلك الحرب أننا كنا ضمن الدفعة الأولى من طلبة الثانوية الذين أدوا “خدمة الدفاع الوطني” بموجب القرار الجمهوري القاضي بهذه الخدمة.. لنجد أنفسنا في ذلك الجو التشطيري ومعايشة ما يحصل في خطوط تلك التماسات والمواجهات القسرية.. وأتذكر ŽŽŽأن من نتائج تلك المواجهات المؤلمة نتيجة استشهاد طالبين من الدفعة الأولى -كتيبة المدفعية- في جبهة جبن- كنت أنا في جبهة السوادية- وكما هو حال الحرب أيضاٍ حصل استشهاد أفراد من إخواننا في الشطر الجنوبي الأمر الذي أوجد حالة نفسية قلقة لدى الجميع في الجانبين..
> ما المشاعر التي كانت تنتابكم تجاه الطرف الآخر الذي تتقاتلون معـه¿
– كنا نشعر أننا لسنا أمام عدو حقيقي إنما نقتتل فيما بيننا كإخوة وكنا نشعر أننا أمام عدو تشطيري فرضته علينا النظم السياسية الشطرية المحلية والخارجية ولسنا أمام عدو بشري.. ولا مفر في سلك الحياة العسكرية من الطاعة في المواجهة حتى الموت.. واللائمة هنا تقع على ذمة واقع سياسي عام وصلت إليه اليمن وليس على مواطنين وأفراد وجندُ هم إخوةْ في الدين والنسب والأرض والعرض ولكن وجدوا أنفسهم أمام خيارات الاقتتال.. فالجيوش كلها تتبع السياسات ولا تتبع الشعوب..
السياسة والشتات
¶ في هذه النقطة بالتحديد.. كيف تنظر لسلوك المجتمع اليمني المقسوم لدولتين آنذاك وتصرفاته مع تلك السياسات حينها.. وما العوامل التي اجبرت الساسة على واقع كهذا..¿
– بلا شك إن الساسة يقودون الشعوب وفق نظم ليس من الضروري قبول الشعوب بها.. وهذا ما كان ساري حينها.. سلوك المجتمع اليمني رغم تأثره بتناوشات السياسية إلا إنه كان يعيش نِفسِ الوحدة المجتمعية.. فكان الناس يتزاورون ويعزون قيم وشائج القربى في السلم والحرب سواء بالطرق الرسمية التي تقتضيها دولتان في شعب.. أو التسلل عبر الحدود وتحمْل متاعب ونتائج هذا التسلل مهما كانت فالأسرة موزعة بين دولتين ويرتهن التقاء هذه الأسرة باتباع آليات الدول المختلفة في المناطق الحدودية أو في الداخل.. ففي صنعاء وتعز يعيش كثير من أبناء الجنوب وفي عدن يتجمع اليمن بأسره فقد كانت هي حاضنة الهوية اليمنية ككل فساكنوها وعامروها هم من أبناء المناطق اليمنية جنوباٍ وشمالاٍ وشرقاٍ وغرباٍ.. فكان التشطير حالة غير طبيعية.. صحيح أن شعوباٍ خاضت نفس التجربة في ألمانيا الشرقية والغربية وفي كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية وكانت خارج السياسة أكثر تلاحماٍ رغم ما فيها من قوميات وإثنيات وديانات بإمكانها وضع فوراق شكلية أو زمنية بين القوى.. فما بالنا باليمن ذات الدين واللغة والمشرب الفكري والعروبي والجغرافي الواحد فكيف سيكون شعبها..¿ فلا مكان لاستمرار شتات السياسة.. فقد كان الشعب موحداٍ بالفطرة.. ففي الشمال كان المناضل الجنوبي قحطان الشعبي الذي قاد ثورة حتى الاستقلال.. ليكون فيما بعد الاستقلال – واستحكام بطش الصراع السياسي في الجنوب- وزيراٍ لشؤون الوحدة في عاصمة دولة الشمال صنعاء وحتى أهداف ثورة 26 سبتمبر 1962م و14 أكتوبر 1963م كان محورهما الجوهري هو الوحدة.. وفي السبعينات والثمانينات كان الشطر الجنوبي من الوطن يشهد تعاطياٍ وحدوياٍ يعكس قيم الترابط الأخوي الذي يسبق السياسات في كل الأحوال إذ نعرف أن هناك وزراء في حكومة الشطر الجنوبي ومنهم عبد الفتاح اسماعيل حيث تقلد مناصب سيادية رفيعة وهو من أبناء محافظة تعز الأعبوس الحجرية.. كل هذا الزخم والوجدان الوحدوي والروح الفكرية والهوية اليمنية قبل اعلان الوحدة وليست بحاجة لأن تْبúحِث في إطار أو مجال فلسفي أو فكري أو حتى في مجال التقارب الاجتماعي بقدر ما كانت مسلمات يؤمن بها المجتمع اليمني في القيم والتعايش واللغة والأفكار النابعة من نسيج فكري وحدوي التوجه والممارسة..
السياسة والوحدة الوطنية
¶ هل يحسب هذا المد الوحدوي للساسة في الوقت الذي كانت هي عامل التشطير الأهم ..¿ وكيف كان نظر الساسة للوحدة¿
– لا.. ليس للسياسة.. إنما كان واقعاٍ بقدر بعده التاريخي والانساني وذروة الشطط السياسي إلا أنه فرض نفسه على السياسة كونه جزءاٍ من هوية التعايش الوطنية بين كل أبناء الوطن ومساراٍ سلوكياٍ في الوجدان اليمني فلا يعني صراع السياسة أن تقف بعصا العداوة أمام قريبك اليمني حين يزورك من الشمال إلى الجنوب أو العكس بل يعني إن صراع السياسة كان واقعاٍ مغايراٍ لطبيعة المنظومة التكوينية لثقافة اليمنيين فكرياٍ وعقدياٍ واجتماعياٍ.. وبالنسبة للصراع السياسي أو بالأحرى صراع قادة السياسة الذين كانوا في الشطرين كانوا يتحدثون عن الوحدة في خطاب سياسي مساير لتطلعات اليمنيين للوحدة ولكن من منظور مؤدلج يعكس مدى تأثرهم وانجرارهم وراء العوامل السياسية الخارجية المتمثلة في المعسكرين الشرقي والغربي فالقادة السياسيون في الجنوب يتبعون المعسكر الشرقي “الاتحاد السوفيتي”.. والقادة في الشمال يتبعون المعسكر الغربي “الرأس المالية”.. وليسوا رأس ماليين بقدر ما كانوا يتبعون دول الخليج التي من مصلحتها أن يظل بينها وبين الاشتراكية المتواجدة بقوة في الشطر الجنوبي من الوطن سياج واقُ يدفع المد الشيوعي الذي يهدد الثروات ومنابع النفط في دول الخليج العربي ذات النهج الرأسمالي ابان الحرب الباردة.. ولهذا تجد أن الأحداث الدراماتيكية تطورت بعد 1986م حين بدأت «البروستيركا» التي قام بها “جربه شوف” “وجراست نوس” وهي الشفافية التي غيرت من حضور “الاتحاد السوفيتي” ولم يعد باستطاعته توفير الغطاء لحليفه في الشطر الجنوبي من اليمن.. وهنا بدأت القبائل الماركسية في جنوب الوطن بالصراع الضالع لا تقبل بأبين ولا شبوة ولا ردفان بأبين وعدن والعكس وهكذا تداعت الأوضاع فبدأ التفكير الجدي بالوحدة بعد أن زالت العوائق السياسية وتلاشت السياسة التابعة للخارج بعد نزع يد الخارج عن قادتها في الشطر الجنوبي..
> ذكرت إن الخطاب السياسي تجاه الوحدة كان مؤدلجاٍ ومسايراٍ لتطلعات الشعب اليمني.. كيف تحول الخطاب السياسي حين بدأ قادة السياسة يفكرون بالوحدة ¿ وما التناغم الاجتماعي الذي احدثته هذه الانعطافة باتجاه الحلم الوحدوي مقارنة بما كان قبله¿
– كانت كيفية التحول لا تختلف عن مسارات الخطاب السياسي المؤدلج إلا بقدر الجدية التي تمثلت في زيادة التفاعل العملي لدى اللجان الوزارية المعنية بملف الوحدة من الجانبين.. واتضحت ملامح التحول في الخطاب السياسي في إحساس من كان يعي تجاذبات الصراع السياسي الشرقي والغربي في أن القادة السياسيين في جنوب اليمن بدأوا بالتفكير بمعزلُ عن المؤثرات الخارجية.. وما يتعلق برؤية الناس العاديين من المجتمع المدني تجاه ما كان يجري حينها كانت مختلفة تماماٍ عن تطلعاتهم للوحدة اليمنية التي ستنهي حالة التشظي والشتات.. إذ كان التشاؤم سائداٍ ربما لأن عامل الزمن الممتد بين الستينات والثمانينات قد رسم من الانتظار لوعد السياسية صورة ذهنية عصية على التصديق لما يجري فكان الناس المتعطشون للوحدة لا ينظرون بجدية إلى أعمال اللجان الوزارية المتخصصة بملفات الوحدة ويرون أنها شكليات اعتادوا عليها من زمن بعيد رغم عملها المستمر منذ حرب 79م حيث تمخض عن أعمالها وضع دستور الوحدة في مطلع الثمانينات ولم تأت احداث 86م إلا نقطة تحول جديدة نحو تفعيل ما تم تدارسه والاتفاق عليه سابقاٍ.
ومع ذلك اليأس كان ثمة تناغم اجتماعي باتجاه الوحدة لكن لا يخرج مرجعه عن إطار السياسة بمضامينها المختلفة.. فالجماهير تتحرك وفق بوصلة تحركات الساسة التي لها دورها على الجماهير سواء على الصعيد الإيجابي أو السلبي.. فعلى الصعيد الايجابي كان خطاب الساسة يركز على مشروع الوحدة فيلقى صدى جماهيرياٍ كبيراٍ لأن هذا المشروع هو يعبر عن واقع اليمن وتطلعات اليمنيين.. والعكس ما كان يصدر عن الساسة في الجنوب قبل ذلك من ممارسات سواء كانت بتأثيرات فكرية ذاتية كأن يتبنوا أفكاراٍ مخالفة للواقع كاستعارة واقع غير الواقع اليمني وأرادوا أن يطبقوه.. لأن الشيوعية لم تطبق في البلدان العربية كما طبقت في الشطر الجنوبي من الوطن.. فقد وجدت في مصر وفي الصومال وغيرها لكنها لم تطبق كما في جنوب اليمن برغم أن اليمن له هوية تاريخية محافظة فكانت تلك الأفكار مغايرة للواقع الاجتماعي اليمني وأثرت في مسارات الرفض المجتمعي لهذه المشاريع وصولاٍ إلى استفحال الصراع..
ما بعد الوحدة
¶ بعد الوحدة ما الذي حصل في مسار العمل السياسي..¿ وهل كان خادماٍ لنمو هذا المشروع الوحدوي في مساره الصحيح..¿
– الذي حصل بعد الوحدة في مسار العمل السياسي أنه توحد نظامان واندمج كل نظام بنقائضه السلبية والايجابية مع النظام الآخر ولم يؤخذ بالأحسن في كل نظام لتشكيل نظام جديد مستخلص من إيجابيات النظامين ولكن أْخذ بالأحزن -كما كان يقول عمر الجاوي رحمه الله- وبهذا لم تخدم مجريات الأوضاع إرواء عود الوحدة ليقوى وينمو المشروع الوحدوي نمواٍ سليماٍ بل تنامت السلبيات باتجاه الخلاف خصوصاٍ وكل نظام في هذا المشروع الوحدوي أراد أن يرتب أوضاعه الذاتية والحزبية ولهذا حصلت الأزمة مبكراٍ أو بتدع سريع الإيقاع 91م وزخم الفرح الوحدوي جدل 92م وملامح الخلاف أزمة 93م واعتكاف علي سالم البيض حرب 94م وما تلاها من ممارسات خاطئة.. وقبل حرب 94م.. كان يقول الناس كيف توحد اليمنيون بالحوار ولم يكن هناك حرب..¿ فدائماٍ تحصل الوحدة بعد حروب ينكسر فيها أحد الطرفين لكن في اليمن حصل العكس توحد نظمان بالحوار ولم يْدرú الساسة في الدولة الجديدة الموحدة في الفترة الانتقالية البلاد إدارة صحيحة ولهذا تأزمت الأمور فكان ربيع الوحدة “كربيع براغ” الذي يشار إلى أنه قصيرَ جداٍ.. وكان المرجع الجوهري لاحتراب النظامين في كون كل نظام ظل محتفظاٍ بأمنه وجيشه واستخباراته وإعلامه فنشبت الحرب كما توقع الناس فالحزب الاشتراكي مثلاٍ احتفظ بالست المحافظات في الجزء الجنوبي من اليمن ولم يكن للدولة الوحدوية وجود فيها بل أصبح القادة الجنوبيون يشاركون في محافظات الشمال وبنغمة الانفصال والخلاف المتنامي وصولاٍ إلى الحرب واعلان الانفصال.. وكانت النتيجة خروج الحزب الاشتراكي من اللعبة السياسية هو الشريك الأساسي في الوحدة وظهرت تحالفات ما بعد 94م بين الاصلاح والمؤتمر ومن ثم انفراد المؤتمر بالحكم بعد 97م وما رافق تلك الفترة هذه من أخطاء ظهر على إثرها الحراك الجنوبي.. والآن بعد ثورة فبراير تعود هذه النغمة الإنفصالية على خلفية التجربة السابقة : ” جربنا الوحدة وفشلت جربنا الاتحاد مع الشمال ولم يفوا بالوعود وخانونا وغدرونا”…. وهكذا.
فبراير 2011م
¶ على ذكر ثورة الشباب السلمية.. ما حمله فبراير من مؤشرات كانت تذهب صوب تعميق الوحدة.. فما الذي تغير.¿
– كان الناس في (11) فبراير يحملون هدفاٍ واحداٍ هو إسقاط النظام كعدو مشترك لكن عندما وصلت الحالة إلى مبادرة وتسوية سياسية.. نظر الجنوبيون إلى ذلك بأنه يعني عودة أصحاب الفتاوى والضم والالحاق وغيره من الذين شاركوا علي عبد الله صالح في السلطة.. ومع انشغال الناس بالثورة التي وحدت الشباب مع الحراك والاصلاح والحوثيين ولم يكن لأحد صوت خارج إطار الثورة الداعية إلى تغيير النظام بل وإسقاطه.. ولو تكونت على إثر هذه الثورة الشبابية قيادة شمالية جنوبية كان سيقبل العطاس والبيض بالعودة في إطار مشروع الوحدة على أساس أن القيادات السابقة انتهى أمرها لكن عندما وجدوا أن القيادات السابقة أو النظام السابق لا زال موجوداٍ في قيادات الجيش والأمن والحزب- أيضاٍ- حيث يشارك المؤتمر بـ50% وفقا للمبادرة الخليجية وآليتها المزمنة تغيرت رؤاهم واستمروا على نغمة فك الارتباط والانفصال..
الهيكلة والحراك
¶ هل تغيرت الرؤية بعد هيكلة الجيش والتغيير الذي شمل مفاصل البناء العسكري والمدني.. ¿ وما مبررات دعوات الانفصال¿
– كنت سأصل لهذه النقطة.. حقيقة أود التأكيد أنهم أخطأوا الحسبة تماماٍ.. لأن المبادرة الخليجية والتسوية السياسية أنقذت اليمن من سيناريو سوريا الذي ربما كان سيبدو أسوأ بكثير مما يتوقعه البعض.. فالثورات قامت لأسباب واحدة تتعلق بالكرامة والحرية وإسقاط الأنظمة ولكن كيف انتهت مآلاتها وكيف خرجت من النظام السابق بنظام مختلف..¿ فمصر 18 يوماٍ وتم اسقاط النظام واجتثاث الحزب وكانت تونس قد سبقتها بنفس المصير وفي ليبيا نجحت الثورة بمساعدة النيتو الذي دمر ليبيا والآن لا زالت الحرب قائمة بين القوى السياسية والقبلية الليبية.. وفي سوريا يحتدم الخراب والحرب الأهلية دون التوصل إلى أفق ينم عن نتيجة بأي اتجاه.. فيما اليمن خرجت بمبادرة وتسوية سياسية أقنعت القوى السياسية بأن هذه هي الحكمة – وهي كذلك فعلاٍ – وهي الطريقة التي وفرت لنا الكثير من الجهد والزمن من خلال توقيع الرئيس السابق على المبادرة وما تتضمنه من تنازل ضمني عن السلطة وبالتالي انتقالها سلمياٍ وبناء على وفاق سياسي واجماع وطني في انتخاب عبد ربه منصور هادي رئيساٍ للجمهورية كقيادي أثبت بجدارة خلال الأزمة مكانته الوطنية موقفاٍ وعملاٍ..
¶ الآن كيف تنظرون لسير ركب التسوية السياسية والإجراء الهيكلي للمؤسسة العسكرية ¿ ومن يمكن محاسبته تجاه ما تتعرض له الوحدة من مساس¿
– الآن عندما نرى الهيكلة نطمئن أكثر خصوصاٍ والحوار الوطني انطلق ويجري بلا سقوف معينة.. ونرى إنه لا يمكن أن نحاسب القائمين على الأمر الآن بما ينتجه الماضي السياسي من رؤى ومن ملامح صورة ذهنية لدى الناس تجاه كثير من القضايا ومنها قضية الوحدة الاندماجية التي فشلت تماماٍ.. ونحن كلنا شكونا من ممارسات الساسة في النظام السابق لكن علينا أن لا نتوقف عند عثرات الماضي وما يجب علينا هو البدء بالسير نحو المستقبل وفق معطيات واقعية ومراحل انتقالية تدريجية.. فمن الصعب أن يأتي التغيير الجذري مرة واحدة.. لأن اليمن شهدت نظاماٍ عْمر (34) سنة وتجذر في الأعماق.. كما “أن تغيير المنكر إذا أدى إلى منكر أشدú فالتوقف عنه أفضل”.. وعامل الزمن يجب أن يحسب له حساب..
> إشارة إلى الصورة الذهنية التي تخلقت في المرحلة الماضية بسبب الممارسات السياسية.. هل وضعتمونا في بؤرة بصرية لرؤية الناس تجاه الحوار الوطني قبل انطلاقه وما يجري الآن..¿
– كانت الصورة الذهنية لدى الناس أن الحوار الوطني الشامل لن يتم بنقائض الجدل والحرب بين القوى ولم يكن له أن ينطلق ويْجúرِى في ظل وجود قوتين عسكريتين هما الحرس الجمهوري والفرقة الأولى.. كقوتين ألقت بظلال الانقسام على قاعدة جماهيرية وقبلية واسعة مؤهلة للاستجابة للحرب في أي لحظة.. وعندما أجريت القرارات الشجاعة من القيادة السياسية تجاه اعادة الاعتبار للمؤسسة العسكرية تغيرت رؤية الناس وبدأت طلائع الأمل بالحوار تلوح في أفق البلد السياسي والاجتماعي والمدني والقبلي.. وفعلاٍ انطلق الحوار ويجري في حرية كاملة بلا سقوف أو استثناءات شهدتها الحوارات السابقة التي حصلت في اليمن خلال 50 عاماٍ وهذا ما يزرع الأمل في نفوس الناس ويبشر بنجاحه…
وما قام به رئيس الجمهورية من قرارات أعادت الاعتبار للمؤسسة العسكرية فلا فرقة ولا حرس جمهوري بل هناك مؤسسة عسكرية لها ثلاث قوى(جوية برية بحرية) وسبع مناطق عسكرية بالأرقام لا بالجغرافيا.. وبالتالي ما قام به الآن الرئيس عبد ربه منصور هادي من تغييرات مفصلية تعد نجاحات استثنائية وانجازاٍ كبيراٍ في ظرف استثنائي لن يدرك أحد استثنائيته إلا بعد حين..
¶ برأيكم أين تكمن عوامل التوفيق السياسي الذي يسير على نهجه الرئيس هادي ¿ وما دور ذلك في الخروج باليمن موحداٍ من هذه التناوشات ¿
– تكمن عوامل وقوة فخامة رئيس الجمهورية المشير عبد ربه منصور هادي في فكره الوطني ونظرته الثاقبة تجاه مقتضيات المرحلة وفي كونه محل اتفاق واجماع وطني ولو لم يكن كذلك لما قبلت الأطراف السياسية المتصارعة بالتسوية.. الأمر الآخر هو إن العالم أصبح يرى أن مصلحته في التسوية وعدم افشال الدولة في اليمن ولهذا حظي “هادي” بالدعم الأممي.. وهذا النجاح لا بد أن يكون له تأثير إيجابي على الأمن والسلم الدوليين.. وما يحصل عليه الرئيس هادي من دعم وطني وإقليمي ودولي لم يحصل عليه أي رئيس من الرؤساء السابقين ولم تحظ اليمن بأي رعاية ودعم كهذه المرة.. وهو ما سيلعب دوراٍ كبيراٍ في خروج اليمن موحداٍ ولكن برؤية ونظام اتحادي يعالج ما خلفه الماضي من جراحات..
مستقبل اليمن
¶ لا زال الناس في توجس تجاه ما يهدد قضايا ومشاكل البلد المتعلقة بالحوار وشكل الدولة وطبيعة النظام والطمأنينة على مسار الوحدة الوطنية.. فماذا تقولون للناس بهذا الخصوص¿
– يظل الأمل قائماٍ مادام الناس يتحاورون ولن يفقد الأمل إلا في حال انسحبت مكونات كبيرة تؤثر على الحوار.. لكن الجميع وطنياٍ واقليمياٍ ودولياٍ يرون أنه إذا لم نتحاور ونصل إلى حلول فالبديل هو الاحتراب.. وهو ما يرفضه الجميع وإن طال الحوار.. وكما يقال (سنة حوار.. خير من ساعة حرب) ..
وأنا أرى أن الوحدة ومبررات قيامها واستمرارها وقوتها من مضمونها.. إذا أردنا تقديم الوحدة على هذا الأساس هي ستبقى.. فالانفصال لا مستقبل ولا مبرر له.. حتى لو أراد الناس فهي ردة فعل مداها قصير.. وأمراء الحرب والصراع والتكالب على السلطة خصوصاٍ في جنوب الوطن في حال حدث الانفصال سيتصارعون في ما بينهم ولن يقر لهم قرار.. فحتى الآن لم تستطع مكونات الحراك الجنوبي أن تلتقي في إطار حوار جنوبي جنوبي..
¶ عودة إلى الجدل في فصائل الحراك.. تجاه القضية الجنوبية التي دخلت بين جدل الهوية والحقوقية.. كيف تنظر كمثقف ومفكر إلى قضية الانفصال التي تنادي بها بعض فصائل الحراك..¿
– مسألة التوصيف والفصل في هذا الجدل تقع على مدى وضوح الإجابات الصريحة على أسئلة تاريخ اليمن السياسي والفكري والاجتماعي فاليمن كيان واحد حتى في نظر السياسة التي هي جزء من سبب تقسيم اليمن بين الحين والآخر.. والأهم هو هل قضية الانفصال قضية حقوقية..¿ أم قضية هوية..¿.. فإن كانت حقوقية فتعالج في إطار الوحدة وجميعنا مع الحقوق والمواطنة المتساوية والشراكة في الحكم والثروة والبناء أيضاٍ.. وإن كانت هوية .. فهي ضرب من الوهم .. لأن اليمن كلها جنوب بتموقعها الجغرافي والتاريخي العريضين الذين شهدتهما شبه الجزيرة العربية.. وهنا تتضح الرؤية المختزلة تجاه القضية الجنوبية.. فإذا كانت قضية سياسية بحتة فقد يقول لك أنا لست يمنياٍ أنا جنوبي – مثلاٍ- .. فالجنوب هنا جهة جغرافية في نسيج اليمن الواحد.. أو يقول استعادة الدولة فاستعادة الدولة لا تكون إلى من أجنبي تفصلك عنه الطبيعة السياسية والجغرفية الفكرية الثقافية وغيرها.. وخلاصة الأمر أن هناك من يطرح مسمى الجنوب دون أن يعي أن اليمن كلها جنوب.. وللتوضيح الأقرب هناك -مثلاٍ – ” الركن اليماني” هو توصيف جغرافي لجهة البيت الحرام إلى اليمن.. وليس له علاقة بالانتماء للخارطة السياسية والجغرافية اليمنية..
التطرف المطلبي
¶ في الجانب الحقوقي .. هناك مطالب حقوقية واضحة قامت عليها القضية الجنوبية .. ما هي رؤيتكم لهذه الحقوق ¿ وما تقييمكم لما اتخذته القيادة السياسية تجاه معالجتها¿
– كما قلت لك.. إذا كانت القضية الجنوبية حقوقية فنحن معها وهو ما نعلنه في الحوار الوطني وهو ما يجري على أرض الواقع من معالجات ولن نرضى بالتفريط في هذا الحق حتى تأخذ المحافظات سواء الجنوبية أو الشمالية الشمالية أو الوسطى أو غيرها جميع مطالبها وفق قيام دولة لا مركزية مالياٍ وإدارياٍ وتنفيذياٍ وأقول: إن علينا ان نجرب الدولة الاتحادية الفيدرالية.. ولست مع الوحدة الاندماجية التي فشلت في الماضي ولست مع التشطير الذي يمقته اليمنيون جميعاٍ – وإن حصلت ردات فعل عكسية فمرجعها النظم السياسية وممارساتها -.. وللحقيقة هناك تطرف في القضيتين الجهوية والجغرافية.. تطرف شمالي شمالي يطالب بمركزية وفق رؤية المركز المقدس وعدم الخروج عليه والوحدة أو الموت.. ومن التطرف أن تكون الوحدة هي الدين وغيرها هو الكفر..
وفي المقابل هناك تطرف آخر هو الانفصال أو فك الارتباط أو الاحتلال أو استعادة الدولة برئيسها “فلان بن فلان”.. فهذا تطرف أكبر.. فالإرادة الوطنية والاقليمية والدولية ليست مع النقيضين لا مع الدولة المركزية المقدسة ولا مع الانفصال والتشرذم وهماٍ خارج أسوار الهوية أو البحث عن هوية غير اليمن لأن اليمن بحاجة دولة اتحادية ذات تقسيم إداري تحت مظلة واحدة بهويتها المعروفة التي يتسق في ظلها نظام فيدرالي يضمن المساواة في الثروة والحكم والعمل التنافسي لما ينهض بالمجتمع اليمني.. وهو ما يصبو ويذهب إليه الحوار الوطني الشامل بإصرار وعزيمة يعززها اهتمام ورعاية واشراف القيادة السياسية والمؤيِدة وطنياٍ واقليمياٍ ودولياٍ.. وفيما بعد إذا جْرب هذا الأمر وفشل بعد الوحدة الاندماجية فمن حق الخيارات الأخرى أن تطل من أي زاوية..
كلمة أخيرة
¶ في نهاية هذا الحوار دكتور فارس هل ثمة كلمة أخيرة تودون قولها للقارئ الكريم¿
– الكلمة الأخيرة هي إني أؤكد ما قلته سابقاٍ .. إنه لا يجب أن نحاسب الوحدة على عهد النظام السابق الذي ثار الناس من أجل اسقاطه بداية بالحراك وانتهاء بـ(فبراير 2011م).. ولا يحاول البعض أن يقحم فهماٍ آخر للمسألة برمتها فالحراك خرج في البداية بمطالب حقوقية ولم يخرج للانفصال وثورة الشباب خرجت لإسقاط النظام والانتصار للوحدة وكان الحراك في صفها وفي هذا الاتجاه.. فالكل خرجوا ينشدون تغيير النظام الذي ظل يدور خارج مسارات التنمية والبناء.. إذن لماذا نذهب بهذه الثورة والحراك إلى هدف كالإنفصال¿ ونستعيد الزعامات التي جربت في الماضي¿ فتجريب المجرب خطأ فلماذا لا نترك للجيل الجديد فرصة بناء المستقبل.
mibrahim734777818@gmail.com